في تذكّر عبد القادر علولة

27 يناير 2017

علّولة في بورتريه لـ سعد بن خليف

+ الخط -
كنّا هناك، في وجدة، المدينة المغربية الأقرب إلى الجزائر (ولد فيها عبد العزيز بوتفليقة)، مستضافين في مهرجانٍ مسرحي، لمّا صاح الطيب الصدّيقي في صالة الفندق، يدعو الجميع إلى البهجة بوجود المخرج الجزائري، الكبير حقا، عبد القادر علولة، معنا، وإلى السلام عليه، وكانا يجلسان معاً، في ركنٍ في المكان. كان ذلك في صيف 1992، أي قبل أقلّ من عامين على اغتيال علولة، ذات مساءٍ رمضاني في وهران، وهو يتجه، إلى إلقاء محاضرة عن "المسرح العربي بين توفيق الحكيم وعبد الكريم برشيد"، وبعد أقلّ من عام على مشاهدتي مسرحيتيه "الأجواد" و"اللثام" في تظاهرة ثقافية في المحمدية (بين الرباط والدار البيضاء)، ثم "خادم سيدين" في الرباط، وهي آخر ثلاثة أعمال له، اختتم بها مسيرةً طويلة من منجز فني، متجدّد ومتنوع في التجربة المسرحية الجزائرية، وله مطرحه المهم عربياً. 

يذكّرني بصيحة الصدّيقي تلك، وبإعجابي الباقي بتلك المسرحيات الثلاث، أن أحدث دورة لمهرجان المسرح العربي (التاسعة)، والتي انتظمت الأسبوع الماضي في وهران، اختارت لها اسم مسرحي جزائري اغتيل، هو الآخر، في غضون الإرهاب الأسود في بلاده، هو عز الدين مجوبي، بعد عام من رمي أهل الإرهاب نفسه رصاصتين على علولة الذي خصّص المنتدون في المهرجان نفسه جلسة نقاشٍ في إبداعاته، فتجدّدت الإضاءة عليها، وهو الذي ما تزال مسرحياتُه تُستلهم وتُستعاد، ويُستأنس بها، في عروضٍ لا تتوقف في الجزائر وخارجها، مع مواسم تكريم له في مهرجانات وتظاهرات عديدة، وكذلك في اعتناء جامعاتٍ ومعاهد بإنجاز أطروحاتٍ عنه. ومن الغريب، في هذه الغضون، أن أرملة الراحل هدّدت، قبل أسابيع، بحرق أرشيفه الكبير، في ميدانٍ عام، ما لم تحتفظ به وتصنْه مؤسسة ثقافية في بلاده.
اختار عبد القادر علولة الحب موضوع مسرحيته الأخيرة التي استوحاها من نص إيطالي كوميدي، لأن "الحب صار ممنوعاً، بحسب جهات في الجزائر"، على ما قال في حينه. اهتمت "خادم سيدين" بالإضحاك والمفارقات اللغوية والطرائف، فكانت مغايرةً عن مسار التجربة العريضة للراحل طوال ثلاثين عاماً في الإخراج والتأليف المسرحيّيْن، وعلى تباينٍ مع ثلاثيته، "القوال" و"الأجواد" و"اللثام". ولا أنسى في الأخيرة الإيحاءات الظاهرة في نقد السلطة، وفي الإحالة إلى فوضى في المشهد السياسي الجزائري (نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات). ولا أنسى الأداء القدير للممثل بومدين سيراط (توفي في 1995) على خشبة ذلك المسرح في المحمدية، ولا المقاطع الغنائية والفُرجة الاستعراضية البهيجة. كما في سابقتها مسرحية "الأجواد"، والتي توازت فيها ثلاث حكايات، وتبدّى إتقان مزاوجاتٍ بين الميلودراما والكوميديا والهزلية، في تقاطعاتٍ أتذكّر ذكاءها وحذاقة الشغل الإخراجي فيها، والذي كان عبد القادر علولة يواصل فيه شغفه بالموروث والمحكي الشعبي الجزائري. وأتذكّر أنه حدّثني، في وجدة، في مقابلةٍ معه نشرتُها في صحيفةٍ عربية، عن حرصه على الأداء الحي الذي يتضمن الحوار والألوان الصوتية، وعن "اللذة المسرحية"، وعن "مرحلة انتقال تمرّ بها الجزائر، ولم تنضج بعد".
قتله أسلافٌ للدواعش الراهنين، وأتذكّر حيرتنا في سبب جريمتهم تلك، فلم يكن الرجل غير داعيةٍ إلى الفن الجميل، وكان ناقماً على أوضاع غير قليلة في بلاده، ولم يكن معجبا بالنظام والسلطة فيها. قتلوا بعده بعام صديقي الكاتب بختي بن عودة. وفي الأثناء، قتلوا نحو ثلاثين مثقفا وكاتبا وفنانا جزائريا غيرهما. وها هم ورثتهم، صنّاع الإرهاب في بطاحٍ عربيةٍ شاسعة، يقتلون أوطاناً ومواطنين، والحيرة نفسها بشأن ما فعل أولئك وما يصنع هؤلاء باقية. لمّا قرأت عن استذكار عبد القادر علولة، في ندوة عنه، قبل أيام في مهرجان مسرحي عربي، طرأت إلى  بالي صيحة الطيب الصدّيقي في ردهة فندقٍ في مدينةٍ شرق المغرب، وتذكّرت إشارة سائق تاكسي، في وهران، لي، قبل عام ونصف العام، إلى موقع جريمة الاغتيال، وتجدّد قدّامي السؤال الباقي في خواطري منذ ثلاثة وعشرين عاماً: لماذا قتلوه؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.