في تذكّر هوغو تشافيز
يروي الشاعر سعدي يوسف قصة لقائه بالزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز في مهرجان للشعر أقيم في العاصمة الفنزويلية: "كان في منتهى اللطف والمرح، محتفيا باسما، (..) مرحبا بك، أنت في بلدك، أنا أعرف المأساة التي حلّت بالعراق بعد الاحتلال، اعتبر كلامي هذا دعوة لك للإقامة في كراكاس، ليس عليك سوى إشعار سفارة فنزويلا برغبتك، أنت تعرف أن فنزويلا والعراق أسّسا أوبك، سوف يستعيد العراق حريته بنضال أبنائه، ونحن معكم في هذا النضال". .. يعقّب سعدي: "سوف يظلّ الناس يحتفون بذكراه محرّرا من الذل والفقر.. لقد فقدنا نحن العرب نصيرا لنا".
بعد عشر سنوات على رحيله، يظلّ هوغو تشافيز عندنا، نحن العرب، شخصيةً عصيّةً على النسيان على خلفية مواقفه وسياساته المناصرة لنا، لكن كثيرين منا قد لا يعرفون أنه تعرّف إلى "العرب" مبكّرا، حيث كان يشاركه العيش في موطنه الأول في مراعي الجنوب الفنزويلي الشاسعة عرب كثيرون ممن هجروا بلادهم طلبا للعيش الآمن، منهم اللبناني عدنان رضوان الذي كان صديقا لأسرة تشافيز، المعلم في مدرسة القرية التي يدرس فيها هوغو الصغير إلى جانب أولاد عدنان رضوان وأبناء عرب آخرين، وكان عدنان يمتلك متجرا صغيرا جمع فيه بين خياطة الملابس وبيع الحاجيات المنزلية الضرورية، وكثيرا ما كان هوغو يتردّد عليه مبعوثا من أسرته لشراء بعض احتياجاتها. وكانت عبارة "صديقنا العربي"، والمقصود به عدنان رضوان، تتردّد كثيرا على مسامع تشافيز الصغير، وقد أعطته الرابطة الحميمة التي ربطت بين أبيه ورضوان، وبينه وبين أقرانه العرب، انطباعا ظلّ راسخا عنده أن العرب والفنزويليين أشقاء، يواجهون ظلما مشتركا مصدره الذين يحكمونهم ويتحكمون في مواردهم، غرباء عنهم أو من أبناء جلدتهم.
منذ ذلك الوقت، تعلّم تشافيز أن "يحبّ العرب، ويحبّ ثقافتهم وتراثهم"، بحسب تعبيره هو. مرّة سأله صحافي خبيث: من أين جاءك "الانتماء العربي؟" كان جوابه أن ما يجمع الأميركيين اللاتينيين والعرب موروث ثقافي مشترك، وإحساس بالظلم والحرمان، والإيمان بالقدرة على الخلاص من نير العبودية.
وجد العرب المقيمون في فنزويلا، والذين يقترب عددهم من مليونين، في تشافيز ما افتقدوه في زعامات بلادهم
كانت شخصية تشافيز كارزمية، يسمّيها باحث أميركي "الشخصية الأوسع من الحياة"، سطع نجمُه بعد نهاية الحرب الباردة وتراجع السياسات الراديكالية، ليسجّل بدء حقبة جديدة لليسار العالمي، ولليسار في القارّة الأميركية اللاتينية على وجه الخصوص، وكان الأكثر نفوذا بين قادة هذه القارّة والأكثر تأثيرا على خطط الولايات المتحدة وسياساتها، وكان سرّ قوته الحقيقية في علاقته الحميمة بفقراء بلاده الذين احتضنوه ووقفوا خلفه، بعدما وفّر لهم برامج التعليم المجاني والخدمات الصحّية المجانية، وفرص العمل، كما أتاح لهم الانضمام إلى دائرة صنع القرار بعد عقود من الإذلال والإقصاء المتعمّد، وذلك عبر المجالس المحلية واللجان الشعبية المنتشرة في كل أرجاء البلاد.
وقد وجد العرب المقيمون في فنزويلا، والذين يقترب عددهم من مليونين، في تشافيز ما افتقدوه في زعامات بلادهم، ولذلك أعطوه أصواتهم في صناديق الاقتراع، وهتفوا له، وأكبروا فيه "عروبته"، وحزنوا لرحيله. وفاقت شعبيته في العالم العربي شعبية بعض الحكّام، وتابع أخباره الناس العاديون في فلسطين والعراق ولبنان الذين انتصر لهم ووقف معهم، وهو الذي طرد سفير إسرائيل في فنزويلا في أعقاب العدوان على غزة عام 2009، ووصف إسرائيل بأنها "دولة قاتلة وضالعة في عملية إبادة"، ودعا إلى إحالة رئيس حكومتها إلى محكمة الجنايات الدولية.
وفي سفراته إلى البلاد العربية، تعرّف عن كثب إلى تقاليد العرب وعاداتهم، ففي السعودية شارك في "رقصة العرضة" وركب الجمل وأعجبته الصحراء، حيث الأصالة والبساطة والانفتاح. وفي بغداد، سار مع صدّام حسين في شوارعها التي استقبلته جماهيرها بمحبّة وود، وكذا في الجزائر وطرابلس وغيرهما من مدن وحواضر عربية أخرى.
له أصدقاء عرب شاركوه في نشاطاته السياسية قبل وصوله إلى الحكم، وتسلموا لاحقا مناصب رسمية رفيعة: اللبناني ريمون قبشي الذي كان مستشاره للشؤون العربية، والسوري طارق العيسمي الذي شغل أكثر من منصب وزاري، آخرها وزير الداخلية والعدل، والنائب العام الحالي، طارق وليم صعب، وهو الشاعر باللغة الإسبانية الذي قال مرّة إنه يشعر بالأسى، لأنه لا يستطيع التعبير شعرا عن نفسه بلغة آبائه وأجداده، وغيرهم من ناشطين عديدين في صفوف الحزب الاشتراكي الموحد الذي يقوده اليوم خلفه نيكولاس مادورو.