في تكريم عبد الرحمن المنّاعي
لا يجوز أن يمرّ من دون ابتهاجٍ به، وسرورٍ خاصٍّ بمغازيه، خبر تكريم وزارة الثقافة والرياضة القطرية عبد الرحمن المنّاعي (1948)، في احتفالية إعلان الفائزين بجائزة الدوحة للكتابة الدرامية، في نسختها الأولى، يوم الجمعة الماضي. ليس فقط لأنه تعبيرٌ عن وفاءٍ متجدّدٍ للفنان الرائد وحارس الذاكرة الشعبية القطرية (والخليجية)، وإنما أيضا لأنه ينطوي على دعوةٍ إلى الالتفات، في غضون الركاكة البائسة التي تفترس راهن الثقافة والفنون في غير بلد عربي، إلى القيم التي دأب مسرح عبد الرحمن المنّاعي، منذ نحو خمسة وأربعين عاما، على الاحتفال بها، وعلى صيانتها في الوجدان العام. وإلى هذا الأمر وغيره، يبقى مدعاةً لابتهاجٍ آخر أن شيخ المسرحيين في قطر أطلق، منذ نحو عامين، موقعا في "يوتيوب"، يشتمل على كثير من عروض أعماله المصوّرة التي تزيد عن الثلاثين، تأليفا وإخراجا، وعلى مقابلاتٍ تلفزيونية معه، ما يعدّ منجزا توثيقيا مهما، ييسّر درس هذه التجربة البالغة الأهمية، ليس فقط في مسار المسرح القطري، وإنما أيضا في المشهد العريض للمسرح الخليجي الذي أدّى مساهماتٍ لافتةً في الحركة المسرحية العربية عموما، ودلّ على طاقاتٍ مقتدرةٍ، ليس فقط بدلالة ما حازته أعمالٌ، أنجزها عبد الرحمن المناعي، تأليفا وإخراجا، (وزملاء له) من جوائز مستحقة في مناسباتٍ وتظاهراتٍ ومواسم ومهرجانات مسرحيةٍ غير منسيةٍ في قرطاج ودمشق وغيرهما، وإنما أيضا لما أضاءت عليه الأعمال المسرحية في الخليج بشأن قضايا مواطن هذه المنطقة العربية، ومشاغله، والتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عبَر فيها ومنها، وذلك كله بصيغٍ فنيةٍ تنوعت مستوياتها المشهدية والتعبيرية والجمالية. وفي البال أن فنانين عربا من ذوي الخبرة والتجارب الممتدّة ساهموا في الدفع بالمواهب والقدرات الفنية في مجال المسرح في منطقة الخليج، في الكويت خصوصا. وتلك مسرحية "أم الزين"، أولى نصوص عبد الرحمن المنّاعي، وأول عملٍ مسرحي يًؤرَّخ أنه انطلاقة المسرح في قطر، بعروضه في العام 1975، أخرجها الأردني الراحل هاني صنوبر، والذي يحرص المنّاعي دائما على التذكير بفضله على المستويين، الشخصي والعام.
وفيما التكريم الجديد الذي استحقّه صاحب "خيمة العز"، وبادرت إليه وزارة الثقافة والرياضة القطرية، يأخذنا إلى أرشيفٍ غزير للمسرحي النشط (والباحث في الفنون الشعبية)، يمرّ، بين أخبار عابرةٍ، أن عملا جديدا أجيز له، وينتظر أن تتعافى الحياة من كوفيد 19 للبدء ببروفاته وعروضه، عنوانُه "وادي المجادير"، من المفارقات أنه عن وباءٍ، عن الجدري، في قطر في الثلاثينيات. ما يجوز اعتبار هذا الخبر شاهدا آخر على شغفٍ، مقيمٍ ومتوطّنٍ في حشايا عبد الرحمن المنّاعي ومداركه، بالتراث والتاريخ الشفاهي لبلده ومنطقة الخليج، ذلك أن أكثر أعماله ونصوصه (وقصائده العامية أيضا) تكاد تتعلق بفضاءات الماضي وقضاياه، بما قبل النفط والرفاه، بأيام تجارة اللؤلؤ، وكفاح الإنسان في منطقة الخليج وبلدانها من أجل الرزق والعيش. وذلك كله ليس من مداخل حنينٍ في المنّاعي، وإنما لتأكيدٍ يدأب عليه، أن حاضر إنسان هذه البلاد موصولٌ بماضٍ كان على ذلك الحال، فيه الكدُّ والمشقّة، مع البهجة بالحياة، على ما انشغلت به، مثلا، مسرحيته، تأليفا وإخراجا، "شدّوا الظعاين"، والتي راحت أيضا إلى ثلاثينيات القرن الماضي. وكما زملاء له في بلده، وفي دول الخليج، حضرت في نصوصِه أشرعة القوارب والسفن الصغرى، وغنّى صيادو اللؤلؤ أهازيجهم، وهو الذي عمل في صباه صيّادا، وجاور البحر في سكناه. غير أن من المهم أن يُشار إلى تنوّعٍ في الموضوعات التي تناولتها أعمالٌ أخرى له، وإلى تنوّع أشكال البناء والتعبير، فلدى المنّاعي مسرحياتٌ غنائيةٌ أيضا، نهضت على قصائد له ولغيره. ولا يُغفل أنه عمل سنواتٍ مديرا لمركز التراث الشعبي لمجلس التعاون الخليجي، ومقرّه الدوحة.
ليس عبد الرحمن المنّاعي، المكرّم أخيرا، راضيا عن أحوال النشاط المسرحي في قطر، ويرى "كسادا" و"تراجعا". ودعا، في مقابلة صحافية معه، إلى "إنقاذ" الحركة المسرحية مما تعانيه من "تخبّطٍ" جعلها في "مواتٍ غير طبيعي"... ولأن أهل مكّة أدرى بشعابها، فالقول في هذا الأمر لأصحاب الشأن، وليس الإتيان عليه هنا إلا للتأشير إلى أن قولا كهذا، عندما يصدر من عبد الرحمن المنّاعي، وليس غيره، تتضاعف قيمته..