في خطر الصهيونية وإسرائيل على اليهود
كان من تداعيات عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حرب إبادة وتدمير إسرائيلية ضد قطاع غزّة، تواتر المقاربة التي تعتبر أنّ الحركة الصهيونية كانت بمثابة أكبر خطر على اليهود في العالم أجمع، مثلما استنتج مثلاً الكاتب الإسرائيلي، كوبي نيف، مشيراً إلى أنّ الصهيونية، وتحديداً بما انطوت عليه من سعيٍ إلى تحقيق غاية تركيز كلّ اليهود في العالم في بقعة جغرافية واحدة وحيدة، هي التي من شأنها أن تسهّل عملية إبادتِهم، وهي التي تضع اليهود في فم التنّين، فضلاً عن أنّ إسرائيل المكان الأكثر خطراً على اليهود في الوقت الحالي من سائر أنحاء العالم.
وردت إشارة نيف هذه في سياق مقال بعنوان "من الحماقة أن نؤمن بأنّ البقاء هو للأقوى فقط"، نشره في صحيفة هآرتس قبل شهر، وربما يُعدّ النموذج الأحدث لهذه المقاربة التي لازمت الصهيونية منذ تأسيسها، كما تثبت الوقائع التاريخية. وهي تعزّزت إثر الهولوكوست، إذ أكّد المتمسكون بها أنّ وجود الشتات اليهودي تسبّب بفشل مخطط النازية الرامي إلى إبادة اليهود رغم أنّ ثلثَهم كان من ضحاياه. وتزامن مقال نيف هذا مع صدور كتاب جديد بالإنكليزية للأكاديمي الأميركي اليهودي، شاؤول مغيد، بعنوان "ضرورة الشتات: مقالات من مسافة بعيدة"، وفيه سلسلةُ مقالاتٍ تعلن طلاقه النهائي مع الحركة الصهيونية، وعقد قرانه على اليهودية. ووفقاً لما يؤكّده، فإنّ الصهيونية واليهوديّة ضدّان، والصهيونية وحدها تتحمّل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع اليهود في العالم، تحت وطأة مفاقمة ظاهرة معاداة الساميّة، وعن المنزلق الذي انحدرت إسرائيل إليه. كما يُشدّد على أنّ العودة إلى اليهودية في صيغتها الشتاتية يمكن أن تكون عاملاً ضاغطاً على إسرائيل كي تتحوّل دولةً ليبراليةً لجميع مواطنيها، وهي ليست ما كانت وما هي عليه الآن.
مثل هذه المقاربة، سيّما ذلك الجزء المتعلّق بتصوير إسرائيل بأنّها المكان الأكثر أماناً لليهود في العالم، شهدت مدّاً خلال الحروب السابقة بدءا من الحرب على لبنان في العام 1982، والتي ظهرت فيها كتابات أفادت بأنّ الآباء المؤسّسين للصهيونية زعموا أنّهم يرغبون بأن يمنحوا الشعب اليهودي "الأمن المطلق"، ولكن البلد، الذي تحقّق فيه حلم الصهيونية واستحال إلى واقع سياسي ملموس، ها هو المكان الأقل أماناً لليهود. ومثلما شهد أحد الكُتّاب في صحيفة يديعوت أحرونوت في ختام عام 1982: "في أي مكان في العالم، بما في ذلك الأقطار ذات الأنظمة الثيوقراطية المتطرّفة، لم يُسفك في العقود اللاحقة لخمسينيات القرن الفائت دم يهوديّ بالمقدار الذي سُفك به في (أرض إسرائيل)"(!)
لعلّ ما تجدر الإشارة إليه هنا أنّ زعماء الحركة الصهيونية اعتبروا دائماً أنّ المنفى بمثابة خيار مؤقت لليهود، وحاربوا الاندماج، وما زالت تتردّد مقولة رئيسة الحكومة السابقة، غولدا مائير، إنّ كلّ يهودي أو يهودية، يتزوّج أو تتزوّج، بـ "الغوييم"، يصبح أو تصبح في عداد الملايين الذين أبيدوا في المحرقة. وبعد مائير، اعتبر رئيس الحكومة السابق، إسحاق شامير، أنّ "المنفى" سيئٌ بالمطلق، وأنّ على اليهود العيش بعضهم مع بعض في نهاية الأمر، وسيكون هذا هو "العصر الذهبي" لهم، ذلك أنّ إسرائيل لا تستطيع البقاء والاستمرار إذا لم تنتقل غالبية الشعب اليهودي إليها. وتوقّع أن تحدُث هجرات يهودية جماعية من شتى الأماكن في العالم، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة. ووردت أقوال شامير في مقابلة أدلى بها إلى مُلحق صحيفة معاريف الأسبوعي، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1990. بيد أنّه لدى مراجعة ما تراكم من وقائع، منذ ذلك الحين، من غير العسير رؤية أنّ نبوءته لم تتحقق، بل على العكس تماماً، إذ لم تصبح الهجرة إلى إسرائيل في مقدّمة أولويات اليهود الأميركيين مثلاً، والتجاذبات بين إسرائيل ويهود الشتات ازدادت اتساعاً، بما يجعل من الصعب الحديث عنهما توأميْن، وإن كان من السابق لأوانه أيضاً، الحديث عنهما ضدّيْن.