في ذكرى رحيل نجم الغلابة
"ما عندكمش حاجة سخنة، جيبولي شاي .. الشاي حلو" .. هذا كل ما طلبه الشاعر الراحل، أحمد فؤاد نجم (1929-2013)، من إدارة مهرجان جرش في أمسية من ليالي يوليو/ تموز 2013. عدَل الفاجومي (الرجل الصريح الذي لا يخشى قول رأيه) مزاجه بكاسة شاي، ثم راح يعدّل بأغانيه أمزجة مستمعيه، ويسخّن جمهوراً غفيراً حضر للاحتفاء بأبي النجوم. عاد الشاعر بعد أشهر قليلة، مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2013 إلى عمّان، ليشرب المزيد من الشاي، ويغنّي في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني "يا فلسطينية والبندقاني رماكو بالصهيونية تقتل حمامكو في حداكو.. وأنا بدي أسافر حداكو". بعد عودته إلى القاهرة بيومين (13 ديسمبر 2013) توفي نجم، وخسر العالم العربي أحد أهم شعراء العامية وأعند صعاليك القرن العشرين.
عاش أبو نوّارة كادحاً ومات فقيراً، ولم يكن يخجل يوماً من فقره، بل اعتزّ بفقرٍ أغناه بحب ناس، وأنقذه من غضب آخرين أمثال أم كلثوم التي توعدته بعد نشر قصيدة "كلب الست" الذي عضّ طالباً كان يمرّ قرب فيلا أم كلثوم. يقول نجم عند تلك الحادثة: "عندما قرأت السيدة القصيدة، قالت "هاخرب بيت اللي كاتبها، فقال لها أحدهم: اللي كتبها معندهوش بيت، فقالت أنا هاشرّده، ورد عليها هو مشرّد أصلا".
كان أحمد فؤاد نجم حليف الكادحين من عمال وفلاحين وطلبة، لا بالشعر والغناء وحسب، بل بالممارسة، واستحق بذلك لقب سفير الفقراء، عندما اختارته المجموعة العربية في النداء العالمي من أجل مكافحة الفقر، في العام 2007، ليكون ناطقاً في المحافل الدولية باسم فقراء العالم العربي، وسفيراً لفقراء العالم إلى جانب الزعيم الأفريقي نلسون مانديلا. وبمناسبة اختياره، قال نجم بسخريته المعتادة إنه سيشكل حكومة عالمية من وزرائها السيد المسيح وعلي بن أبي طالب القائل "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" وأبو ذر الغفاري القائل "إذا جاع أحدٌ فلا أمان".
وعلى غير عادات وزراء المعالي وأصحاب السعادة والمقامات الرفيعة، لم يشأ وزير الغلابة إغماض عينيه للموت إلا بعد نقل ما في رصيده البنكي لحساب مستشفى سرطان الأطفال، وتوزيع آلاف الجنيهات على موظف البنك وموظف الأمن وسائق التاكسي، وغلابة آخرين صادفوه في طريق عودته إلى البيت، تاركاً القليل من المال لبناته نوّارة وزينب وأميمة. في ذلك اليوم، توفي أحمد فؤاد نجم بعد أن وزّع تحويشة العمر على فقراء عاش بينهم ودافع عن قضاياهم، ودفع لأجلهم سنواتٍ من عمره قضاها في السجون.
عاصر نجم ثلاث ثورات مصرية؛ ثورة الطلاب في سبعينيات القرن الماضي، و "ثورة الجوع" التي أطلق عليها السادات "انتفاضة الحرامية"، ثم ثورة يناير 2011، التي سمّاها ثورة "شياطين الفيسبوك". وناكف نجم ثلاثة رؤساء؛ جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، ولم يُعرف عنه التملّق لأحدهم أو الفجور في خصومة أي منهم. كتب قصيدة رثاء في الرئيس عبد الناصر الذي سجنه تسع سنوات؛ وكتب قصائد هجاء وسخرية في السادات الذي أخرجه من السجن بعد وفاة عبد الناصر، منها: "ريسنا يا أنور"، و"الفول واللحمة" و"على الربابة" و"البتاع"، وأشهرها كانت قصيدة "نيكسون بابا" بعد زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مصر، وعارض سياسات حسني مبارك وكتب في شخصه وعهده قصائد "الشكارة"، و"في عيد ميلادك الكام وسبعين"، ثم قصائد "الجدع جدع والجبان جبان"، و"شيد قصورك"، و"رسالة من حسني مبارك إلى الشعب المصري"، و"سلامة مرارتك" وهي القصيدة التي كتبها عندما استأصل الرئيس مبارك مرارته. عاش مع الشعب الثائر فصول ثورة 25 يناير المطالبة بإسقاط نظام مبارك، ولكنه رفض إهانة مبارك بعد تنحّيه وقال: "رغم كل الجرائم المسؤول عنها يبقى رئيساً سابقاً للمصريين. إحنا مش عايزين نجيبه وانبهدله قدامنا، إحنا شعب أصيل وجميل ومتسامح ونعفو عند المقدرة .. عايزين فلوسنا اللي سرقوها هو ومراته وولاده وحاشيته".