في زيارة عبد الإله بنكيران
هناك، في زنقة ابن حوقل (جغرافي ورحّالة ومؤرّخ مسلم توفّي في 977 ميلادية) المتفرّعة من شارع متفرّعٍ من شارع محمد الخامس في وسط الرباط، ترى قدّام دار رئيس الوزراء المغربي الأسبق، عبد الإله بنكيران، عنصري أمنٍ لحراستها. وأول ما تقعُد في المطرح الذي يُؤثِر صاحبُ الدار الجلوس فيه، في صالة الضيوف، المؤثثة ببساطةٍ تشيع ألفةً مع تفاصيلها، تُصادف عيناك لوحةً صغيرة، ببرواز، كُتبت عليها بخطّ مشرقي الآية الكريمة "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"، فتُحاول أن تقع على "مرموزاتٍ" (أو شيفراتٍ؟) يُراد أن تصلَ إليك عندما تقرأ هذه الآية من سورة الأعراف، والتي تعني، من بين كثيرٍ تعنيه، أنها توصيك بأن ترضى من الناس ما تيسَّر من أعمالهم، ولا تطلُب منهم ما يشقّ عليهم، ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، فلا تُقابلهم بمثل ما قابلوك به. تجلس مع مستقبليك، وهم نجلُ صاحب البيت، وزوج ابنته، وضيوفٌ من خارج الرباط، وأنت مصحوبٌ بالصديق عبد الصمد بن شريف، الذي يتولّى إدارة القناة التلفزيونية المغربية الثقافية، تتبادل وإياهم حديثاً كيفما اتفق، يقطعُه قدوم بنكيران، باللباس المغربي التقليدي، مرحّباً، مع فائضٍ من البشاشة عندما يمازحك عن سبب جلوسك في محلّه. وعندما أخاطبه بلقب دولة الرئيس، على ما نُطلق في الأردن (وغيره) على كل رئيس وزراء، حاليٍّ وسابق، يعقّب بأن حالَه ليس هو هذا. ثم نسترسل في أشتات حديثٍ يأتي على غير شأن، يقطعُه قدوم زوّار جدُد، قبل أن يُؤتى لنا بالغداء الشهي، الكسكسي المغربي الفخيم، والذي يلذّ لك بهذه الصحبة، وبيننا سائقٌ، طلب "دولة الرئيس" صعودَه للغداء معنا، فلا يبقى في السيارة في الخارج.
ليست الزيارة لإجراء مقابلةٍ صحافية، وإنما لاستكشاف "مزاج" عبد الإله بنكيران، ومحاولة معرفة الموضع الذي يقيم فيه سياسياً في ظرف المغرب الراهن، والذي يشهد تآكلاً في الثقة العامة بالأحزاب، وقد كان لبعضها، في زمنٍ مضى، حضورُه القوي والفاعل في البلاد. تأخُذُنا الدردشةُ إلى ما لا يُمكِن نشر شيءٍ منه، ليس فقط لأن التباسُط في الذي كنّا نتداول فيه اتّصف بارتجاليةٍ وعفوية، وبعض صراحةٍ زائدة، وإنما لأنه ليس من السياسة في شيءٍ أن تُفصح، للعموم، عمّا فيك في أي مواقيت. ومن ذلك أن الإتيان على فلان وعلّان في هذا الحزب أو ذاك، وإنْ ليس نميمةً أبداً، لا نفعَ من إشهاره للناس في غير سياقٍ مناسب، كسؤال بنكيران عمّ فعله ناس الحزب الفلاني بأنفسهم عندما اختاروا الرجل العلّاني أميناً عاماً لهم (سابقاً). والأهم أن الرجل يُخبِرنا عن شغلٍ كثير ينشط فيه حزبُه، العدالة والتنمية، والذي يتولّى أمانته العامة (عائداً إليها) منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2022، من أجل أن يستعيد فاعليّته في المغرب. ويقول إن الحزب في حال أفضل، وإن ليس له كتلةٌ في مجلس النواب بالنظر إلى حيازته 13 مقعداً فقط، في انتخابات ذلك العام عندما خسر 115 مقعداً من 125 كان عليها في انتخابات 2018، غير أن بنكيران يصف أداء هؤلاء النوّاب بالفاعلية والمصداقية والتأثير، على غير ما هم عليه نوابٌ في أحزابٍ أخرى. ويقول إن "العدالة والتنمية" هو الحزب الأول في المعارضة، وعندما أُخبره بأن كاتباً أول لحزبٍ معارضٍ آخر أخبرني بهذا عن حزبِه، اكتفى بابتسامة مستنكرة، ثم قال ما قال.
تُضحكنا بساطة السائق في سؤاله بنكيران إن كان سيعود رئيساً للحكومة، ما يبدو سؤالاً في مهبّ احتمالاتٍ تبدو بعيدة، غير أن لنا أن نخمّن الاستحقاقات التي يتطلّبها أمرٌ كهذا مستبعدٌ، ليس فقط بفعل "البلوكاج" الشهير على شخصه، عندما تولّى سلفُه سعد الدين العثماني في الحزب رئاسة الحكومة، وإنما لأن مفاعيل غير قليلة يتطلّبها. وقد كانت رئاسة بنكيران الحكومة في 2011 حدثاً فارقاً، عندما حاز "العدالة والتنمية" المنزلة الأولى في انتخابات ذلك العام، في أجواء الربيع العربي الذي لا يبدو بنكيران متحمّساً لبعض وقائعه، ويقول كلاماً يحتاج إلى نقاش عن الديمقراطية التي تطلّعت إليها الشعوب المنتفضة.
قبل يوم من زيارتنا، كان عبد الإله بنكيران (70 عاماً) يتحدّث إلى شبيبة "العدالة والتنمية" بأن الدولة المغربية كانت تتّجه إلى منع المسيرات والوقفات التضامنية مع فلسطين. وبعد أيام يستنكر تنظيم مهرجان موازين الفني في وقتٍ يُباد فيه الشعب الفلسطيني. وفي البال أن الرجل قال إن توقيع العثماني إبان كان رئيساً للحكومة، اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، كان خطأ... لولا أن المجالس أمانات، لزاد الكلام هنا عن الذي كان من كلامٍ في ظهيرة الجمعة قبل الماضية، في دار عبد الإله بنكيران، في زنقة ابن حوقل، في الرباط.