في سرديات نهايات العالم وخراب روسيا
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
هل نحن أمام تهديد آخر بنهاية العالم عبر حرب نووية تؤذن بتدمير كوكب الأرض ومن عليه؟ وهل يمثل هذا التهديد النذير الأخير بنهاية الحياة على هذا الكوكب في ظل مصائب "عالمية" متراكبة، مثل جائحة كورونا غير المسبوقة، وخطر التحوّل المناخي، وغيرها من المخاطر المُحدقة بهذا الكوكب؟
في العادة، لا تبقى سرديات نهايات العالم، سواءً أكانت خيالية، كما في الأساطير أو الروايات والأفلام، أو دينية عقائدية، أو حتى علمية (مثل نظريات التغير المناخي)، هامشية في الحياة العادية. يقتصر السجال حولها على معتقديها أو على العلماء والخبراء، إلا أنها قد تتحوّل، في حالات معينة، إلى أيديولوجيات وسياسات، كما في الحركات المهدوية التي تفجرت في شكل ثوراتٍ متعدّدة عبر التاريخ الإسلامي. وربما لن تكون الثورة المهدية في السودان في نهايات القرن التاسع عشر (وبدايات القرن الهجري الثالث عشر) آخرها، فلا تزال هناك أصداء لمثل هذه المعتقدات في مجتمعاتنا المعاصرة، لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أدنى تجلياتها. وهناك مقابل لها في حركات يهودية وهندوسية، وكذلك الحركات البروتستانية التوراتية -الإنجيلية، التي تجمع، مع إيمانها برجعة المسيح، تصور إمكانية المساهمة باستعجال هذا القدوم عبر استراتيجيات منها دعم إسرائيل، وتشجيعها على محاربة غير اليهود في المنطقة، وذلك استناداً إلى أسطورة معركة "مجيدو" (مدينة قديمة مندثرة، وموقعها جنوب شرق حيفا حالياً) التي تأذن بعودة المسيح وهزيمة أعداء الله، وإرساء ألفية من السلام الدائم.
وبحسب إشارة قصيرة في "سفر الرؤيا" إلى هذه اللحظة الحاسمة، فإنّ المعركة ستكون مواجهة بين السماء و"كلّ ملوك الأرض" الذين يعلنون التمرّد على حكم الله، فيقود المسيح عليه السلام جيشاً سماوياً يلتحق به المؤمنون، فيهزم المتمرّدون شر هزيمة، ويعم السلام الأرض بعدها. (لعلّ قدوم المسيح شاهراً سيفه خلافاً لتعليماته بإدارة الخد الآخر أقرب إلى التصديق من توحّد كلّ ملوك الأرض). وقد اكتسبت هذه الأسطورة أهمية معاصرة عقب احتفاء الإنجيليين بقيام إسرائيل باعتبارها معجزة إلهية تصدق النبوءات التوراتية الإنجيلية، وزاد أتباعها عقب نشر كتاب هال ليندزي "كوكب الأرض العظيم المندثر" The Late Great Planet Earth في عام 1970 (هناك تلاعب بالكلمات هنا، فاللفظ الإنكليزي Late يعني المتأخر والسالف معاً)، الذي أطلق هذه البشارة، وبيعت منه ملايين النسخ. ورغم محاولات التقليل من أهمية ثقل الفئة الموالية لإسرائيل وسط هذه الحركة الدينية، فإنّ خبراء قدّروا عددهم، وبعض من يسمّون الصهاينة الإنجيليين في الولايات المتحدة، بعشرات الملايين. وقد اشتهر عدد من الرؤساء الأميركيين بمناصرة هذه الحركة (أو تملقها)، ومن أبرزهم الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، الذي علق الروائي الأميركي الراحل، غور فيدال، على حماسه الزائد لهذا التيار قائلاً: صدمنا إذ بدا لنا أنه لم يكن، كما اعتقدنا وتمنّينا، منافقاً عليماً، وإنما كان بالفعل يؤمن بهذه الترّهات. وقد تخوّف بعضهم عندها من وجود هذه العقلية عند رجل إصبعه على الصاعق النووي.
غزو بوتين أوكرانيا حملة صليبية لاستعادة مهد الأرثوذكسية وأرضها المقدّسة، وصراع يذكر بصراع قديم يعود إلى القرن الثالث عشر
وكان الرئيس السابق، دونالد ترامب، ممن استخدم هذه الروايات لخدمة أهدافه، رغم أن إيمانه بها قد يكون موضع تساؤل. وقد نقلت صحيفة واشنطن بوست عن أحد أنصاره من الإنجيليين في مايو/ أيار 2018 تصريحاً جاء فيه إن العد التنازلي لعودة المسيح يبدأ عندما تقوم إسرائيل الكبرى وتتحدد حدودها النهائية. وبدورها، عللت صحيفة "هآرتس" في ديسمبر/ كانون الأول 2017 إعلان ترامب في ذلك الشهر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بمساعيه إلى ترضية غلاة الإنجيليين الذين صوّت له 87% منهم في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وكان يحتاج أصواتهم في انتخابات الكونغرس في ولاية ألاباما في تلك الفترة.
وفي مقالةٍ نشرت في موقع مجلة "إسكوير" الخميس الماضي، ركّز المعلق شارلز بيرس على الجانب الديني في "غزوة بوتين الصليبية" لأوكرانيا، وارتباطها بالقومية المسيحية المتحالفة مع الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، مذكّراً بتعلق الروس بكييف كحلقة مؤسّسة في تاريخ روسيا الديني - السياسي. وقد نصب الرئيس الروسي بوتين أمام الكرملين تمثالاً ضخماً للقديس فلاديمير، الشهير بفلاديمير الأكبر، أمير إمارة كييف في القرن العاشر الميلادي، في ما رآه بعضهم إشارة إلى أنه وارث ذلك الملك الشهير (980-1015). ويعتبر فلاديمير مؤسّس روسيا والكنيسة الأرثوذكسية معاً (بعد تحوّله إلى المسيحية من العقيدة الوثنية السائدة حينها في 988)، وتوسيع مملكته لتشمل بيلاروسيا وأجزاء واسعة من روسيا الحالية. وعليه، يعتبر الروس أوكرانيا، وخصوصاً كييف، مهد حضارتهم. وقد ثارت ثائرة بوتين والكنيسة الروسية عندما اتحدت معظم كنائس أوكرانيا الأرثوذكسية في عام 2018 وأنشأت كنيسة جديدة مستقلة. وتشير المجلة إلى إرهاصات تقارب محتمل بين الأرثوذكس الروس والمحافظين من الكاثوليك وبعض طوائف الإنجيليين المتشدّدين لإنشاء تحالف ديني محافظ عابر للقارّات، يتحد ضد العلمانية والانحلال، وبالطبع الإسلام. (ومعلوم أنّ ترامب أشاد بخطوة بوتين الالتفافية في استخدام الاعتراف بالأقاليم الانفصالية في أوكرانيا لشرعنة غزوه لها، واصفاً المناورة بأنّها ذكية، قائلاً إنّ أميركا يجب أن تنفذها على حدودها الجنوبية).
ويختم كاتب "إسكواير" مقاله بالتأكيد على أنّ الحرب في أوكرانيا دينية في جوهرها، وصراع على تحديد هوية الأرثوذكسية في شرق أوروبا. ومن هذا المنطلق، فإن غزو بوتين أوكرانيا حملة صليبية لاستعادة مهد الأرثوذكسية وأرضها المقدّسة، وصراع يذكر بصراع قديم يعود إلى القرن الثالث عشر حول من يهيمن على هذه "القدس" الأرثوذكسية، موسكو أم القسطنطينية؟ وتساءل: إلى أيهما تنحاز الكنائس الأرثوذكسية في العالم؟
سرديات الخوف حين تتعدّى حدود المعقول تصبح حالة هوس مرضي على حافّة الجنون، ولم يكن بوتين بعيداً عن مثل هذا الهوس
فلاديمير الثاني ليس بالقطع من القديسين، كما أنه لا يهدف إلى التسريع بنهاية العالم واقتراب يوم الحساب، لأنّ سجله المعلوم لا يشجّع على مثل هذا التسرع، إلّا أنّ هوسه السياسي، لا الديني، هو ما قد يعجّل بالنهايات. لقد كان الكابوس الأكبر بالنسبة لـ"أهل الحلّ والعقد" على الساحة الدولية أن تملك الجماعات الدينية المتطرّفة و"الإرهابيين" أسلحة نووية. وقد بلغ الخوف حد الهوس، واستخدم لغزو العراق. ومعروفٌ أنّ سرديات الخوف حين تتعدّى حدود المعقول تصبح حالة هوس مرضي على حافّة الجنون، ولم يكن بوتين بعيداً عن مثل هذا الهوس. ولعلّه من عجب أنّه ووزير خارجيته يتباكيان على "اضطهاد" أوكرانيا المتمرّدين الانفصاليين فيها، متغافليْن عما فعلته روسيا بوتين بمتمرّدي الشيشان، ناهيك عن آثامها (وآثامهما) المتواصلة في سورية. وقد تسبب سكوت العالم على تلك الموبقات (أيضاً بدافع الهوس بالإرهاب) في ما نرى اليوم في أوكرانيا.
إذاً، ليس عجباً أن تكون عاقبة هذا الهوس وقوع ترسانة من أسلحة الدمار الشامل تكفي لتحقيق ما يقارب اسمها، الدمار الشامل لكل العالم عدة مرات، في يد شخص مهووس بمخاوف مرضية، وبتطرّف قومي- ديني يتجاوز الهوس. وقد كان إعلانه عن قدرته على تدمير الغرب بأسلحةٍ لا يمكنهم تخيلها إذا تجرّأت دوله على التصدّي لغزوته الصليبية القومجية الجنونية، واستعداده لذلك، علامة فارقة، حققت سلفاً نهاية العالم كما نعرفه، فلم يعد أمام الغرب خيار غير المواجهة الحاسمة مع زعيم يهدّد بالدمار الشامل، ما لم تقع الاستجابة، بل الخضوع، لنزواته ومواضع هوسه. ولا أتخيّل أنّ قيادةً غربيةً ستخلد إلى نوم قبل أن تحسم هذه "المعادلة"، أقلها بتغييب بوتين من المسرح، إن لم يكن تغييب روسيا كلها، فإذا كان الغرب قد اتخذ مجرّد تهديد صدّام حسين بتحدّيه إقليمياً تهديداً وجودياً، فإنّ وضع بوتين بقية العالم أمام خيار الخضوع لسلطانه أو الدمار هو خطر سيشغل أجهزة المخابرات الغربية حتى عودة المسيح عليه السلام، أو التحاق بوتين به، أيّهما أقرب، وأمر لن يوضع في قائمة المهام المؤجلة.
ليس بدعاً استخدام بوتين عقائد لا يؤمن بها لتحقيق مآرب أخرى، فقد سبقه بذلك حكام إسرائيل العلمانيون، الذين لم يكن غالبهم يؤمن بالديانة اليهودية
ولعلّها مفارقة أيضاً أن المخاطر الواقعية المثبتة علمياً تتداخل مع مظاهر الهوس الأخرى. على سبيل المثال، نجد ترامب وأنصاره من المهووسين برجعة المسيح وقرب نهاية العالم إذا دعمت إسرائيل يتشكّكون في صحّة المقولات عن التغير المناخي، ويعتبرونه مؤامرة لإضعاف أميركا، كما أنهم يشكّكون في مقولات العلماء في مخاطر جائحة كورونا وحقيقتها، ويشتمون فيها رائحة مؤامرات مزدوجة، سواءً في مصدرها أو الإجراءات المتخذة لمكافحتها. هنا يتداخل الهوس مع العلم والسياسة، في أكثر الوصفات تدميراً للعقل والحياة والسلم. والعجب أنّ كثيرين من أفراد هذه الفئة يؤمنون بقرب وقوع كارثة لا يحدّدون مصدرها، ويعدّ كثيرون منهم مخابئ في أقبية منازلهم أو في الجبال، يزوّدونها بكلّ مقومات الحياة بعد نهاية العالم.
وليس بدعاً استخدام بوتين عقائد لا يؤمن بها لتحقيق مآرب أخرى، فقد سبقه بذلك حكام إسرائيل العلمانيون، الذين لم يكن غالبهم يؤمن بالديانة اليهودية، من دون أن يمنعه ذلك من استغلال هوس المتطرّفين دينياً أداة لإنشاء (وتوطيد) دولة اليهود المعرفين عرقياً لا عقائدياً. ينطبق الأمر نفسه على التحالف الذرائعي بين حكام إسرائيل وأنصارهم من الإنجيليين، إذ يكفر كلاهما بعقيدة الآخر، من دون أن يعوق ذلك الاستغلال المتبادل. وقد شبهنا في مداخلة سابقة نظرة الإنجيليين إلى إسرائيل وأهلها من اليهود بنظرة خاطفي "11 سبتمبر" ركاب الطائرات التي اتخذوها قنابل، فمهمة إسرائيل وفائدتها تتلخصان في أنّها ستشعل حرباً تدمر أهلها وتلقي بهم في سواء الجحيم، تمهيداً لعودة المسيح الذي لا يؤمنون به، وبالتالي سيكونون من أول الهالكين. وبالفهم نفسه، يستغل حكام إسرائيل هوس الإنجيليين لتحقيق الدعم الانتخابي لأنصارهم، وتوفير الدولارات من خزائن أميركا لدعم إسرائيل.
نحن، إذاً، في عالم هلك بالفعل أخلاقياً، وفقد، إلى حد كبير، هويته الإنسانية، ولن يكون هلاكه بهذا السبب أو ذاك سوى تحصيل حاصل. وسيكون بوتين، مع دولته التي أصبحت أكبر وأخطر دولة مارقة في العالم، أو من دونها، أول الذاهبين، وسواءً بحيلة تسلبه قوته، أو بعملية انتحارية يفجر فيها بقية العالم. فهذا المرجّح، والله أعلم.
على الأقل، لا داعي لأن نقلق من التغير المناخي أو جائحة كورونا.
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"