في صور القرضاوي
كان مفاجئاً لكثيرين، أحدُهم كاتب هذه السطور، قول الشيخ يوسف القرضاوي، غداة الانتخابات الرئاسية في مصر العام 2012، إنّه صوّت في الدورة الأولى للمرشّح عبد المنعم أبو الفتوح، وفي الثانية اقترع لمحمد مرسي. دلّ هذا، سيما لغير العارفين تماماً بتفاصيل محطّات الداعية الشهير في سيرته الفكرية والعلمية والمعرفية، وصاحب هذه الكلمات منهم، على بطلان قول من يقولون إنّ القرضاوي مرشدٌ أول لجماعة الإخوان المسلمين، فالرجل يختار لرئاسة مصر المرشّح الذي خرج عن إرادة تنظيم الإخوان، والمفصول منهم، (المحبوس حالياً ظلماً في سجون النظام العسكري المصري). ويزيد من مقادير المفاجأة أنّ عالِم القرآن والسنّة عُرِض عليه، في طورٍ مضى من حياته، منصب مرشد عام الجماعة، واعتذر، وهو الذي انتسب إليها في شبابه الأول، ما تسبّب له بالسجن في أواخر العهد الملكي وزمن عبد الناصر. غادر الجماعة تنظيمياً، وأشهَر انتقاداتٍ لها، غير أنّه بقي على تقديره الكبير لها، بل وانحيازه السياسي معها في مواجهة قوى الاستبداد ونظم الثورات المضادّة. وقد قال مرّة إنه لم يترك "الإخوان المسلمين" فكرةً. .. ولكنّ تصويته لمنشقٍّ عنهم (إن جاز هذا الوصف لأبو الفتوح)، في انتخاباتٍ استثنائيةٍ في ظرفها بعد ثورةٍ مشهودةٍ، يعني، من بين كثيرٍ يعنيه، أنّ مساحاتٍ غير هيّنة من الاختلاف بين منظوره السياسي ومنظور الجماعة لا تصيّره في المطرح الذي تضعُه فيه رطاناتُ كثيرين من غلاة خصوم الإسلام السياسي، سيما عديمي الحسّ الديمقراطي من هؤلاء.
يأتي إلى البال هذا المقطع من صورةٍ للقرضاوي مع حدث وفاته رحمه الله أمس (عن 96 عاماً)، وتتداعى مقاطعُ أخرى من صوره العديدة في رحلته، عالماً بارزاً في شؤون الشريعة الإسلامية، وصوتاً مسموعاً من الشعوب العربية ضد أنظمة الفساد والاستبداد. وفي الوُسع أن يلحظ واحدُنا أنّ إجماعاً عربياً وإسلامياً عريضاً، يكاد يكون تامّاً، قبل ثورات الربيع العربي، على مرجعية الأزهري العتيق في الفُتيا والاجتهاد ومسائل الشريعة ومقاصدها، وهو الذي له، من بين كتبه التي زادت عن المائة، "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" و"الفتوى بين الانضباط والتسيّب" و"الفتاوى الشاذّة" و"الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد". ومما في ذلك الإجماع أنّ القرضاوي، في كتبه وأحاديثه التلفزيونية وخطبه، كان من عناوين الاعتدال والوسطية ومناوأة الغلوّ والتشدد، ومن أهل التيسير، ما جعله من المشايخ المحبّبين إلى النفوس. ولم يكن في الأثناء داعيةً سياسياً، ومنشغلاً بتشجيع الشعوب على ثورات وانتفاضات، وإنما كان مهموماً بالتثقيف في الإسلام وأحكام الشريعة وتبيان الحلال والحرام، وإنْ ظلّ مقيماً في الأفق التقليدي السياسي لجماعة الإخوان، سيما في جنوحها إلى المهادنة والحوار والإبقاء على أفضل الصلات الممكنة مع عديدٍ من الأنظمة العربية.
ما إن اندلع الربيع العربي، وجهر الشيخ باصطفافه مع الناس والمتظاهرين في سورية ومصر واليمن وليبيا و... إلخ، وبنصرته تطلّعهم إلى التحرّر من أنظمة القمع والقتل والفساد والاستبداد، حتى "اكتشف" بعضُهم أنّه داعية عتيقٌ إلى الإرهاب، وأنّه "إخونجي" متعصّب. وكان من مفارقاتٍ مفضوحة أنّ الإمارات التي كرّمت صاحب "المنتقى من الترغيب والترهيب" باثنتين من أرفع جوائزها، وخصّص تلفزيونها الرسمي له برنامجاً، راحت تجنّد مستكتَبين ومتحدّثين في منصّاتها الإعلامية ليسترسلوا في تأويلاتٍ تنتقي من أحاديث وخطبٍ وكتاباتٍ للرجل لتذهب به إلى الموضع الذي يُراد تصنيفُه فيه. وقد سلكت أنظمةٌ في غير بلد عربي مثل هذا وغيره، بشأن الداعية الشهير، لا لشيءٍ إلّا لأنّه أفتى بمقاتلة أنظمة القتلة، وبنصرة الشعوب الثائرة. وفي الوُسع أن يُقرأ القرضاوي (وغيرُه) بروحٍ نقديةٍ وسجاليةٍ، بعيدةٍ عن التوتر والتشنّج، من قبيل مخالفة اجتهاداتٍ ومواقف سياسيةٍ له، غير أنّ المنزع الموتور، والاتهامي الناقص التهذيب، من أدوات أولئك في لغتهم ضد الشيخ، ما ضاعف من إجلال الناس له، وما زاد من سُخطهم على أنظمةٍ رثّةٍ معلومة.
إذاً، مع القرضاوي في وقفاته مع السوريين والليبيين والمصريين واليمنيين، لمّا ثاروا وانتفضوا، ومن المحمود في شخصِه أنّه، في اللحظة التي توجِب على كل صاحب علمٍ ومعرفة، أن يعلن موضعَه في أيٍّ من ضفتي الاستبداد ومناهضيه، فعل هذا واختار. أغضبَهم ما اختارَه، فتطاولوا عليه بسخيف الكلام. ومع القرضاوي عندما اجتهد وأفتى عن علمٍ بما ييسّر للمسلمين فهم دينهم. ومع كلّ نقد يلتزم الحسّ الأخلاقي، يرى مقاطعَ من الشيخ الراحل تستحقّ السجال معها أو مؤاخَذتها أو رفضَها.