في علاقات أنقرة بتل أبيب: التجارة والسياحة أولاً
عقب زيارتيه المهمتين، رام الله وتل أبيب، قبل أيام، صرّح وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو أن مسار "الأجندة الإيجابية" مع تل أبيب منفصل عن ملف دعم الحقوق الفلسطينية، حيث ستواصل بلاده هذا الدعم، إذ قال إن تحسّن العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وإسرائيل "سيصبّ في مصلحة الفلسطينيين وسيساعدهم". وكان أوغلو قد وقّع تسع اتفاقيات مع الجانب الفلسطيني، وذلك في ختام اجتماع للجنة الوزارية التركية الفلسطينية المشتركة، شملت، كما أوردت وكالة الأناضول، مذكرة تفاهم بخصوص التعاون في مجالات البروتوكول والبيئة والمياه والقضاء، وتبادل وثائق الأرشيف التابعة للأوقاف في فترة الدولة العثمانية. كما وقع البلدان مذكرة تفاهم بخصوص التعاون في تأهيل الشرطة والاعتراف المتبادل برخص القيادة واتفاقية البلد المضيف بين وقف المعارف التركي والحكومة الفلسطينية، ومذكّرة تفاهم بين وزارة الريادة والتمكين الفلسطينية، ورئاسة دعم المشاريع الصغيرة والمتوسّطة وتنميتها التركية.
في الجزء الثاني من زيارته، والمتعلق باللقاء مع مسؤولين من دولة الاحتلال، قال الوزير التركي إن بلاده اتفقت مع إسرائيل على "إضفاء طاقة جديدة على العلاقات الثنائية في مجالاتٍ عديدة"، ولاحظ أن العلاقات الاقتصادية استمرّت في النمو والتطور رغم التوتر. وبحسب تشاويش أوغلو، "كانت تركيا من أكبر عشرة شركاء تجاريين لإسرائيل، وإحدى الوجهات السياحية للإسرائيليين". وقال "نريد استضافة مزيد من السياح الإسرائيليين في بلادنا". فيما قال وزير خارجية الاحتلال يئير لبيد "لن نخدع أنفسنا ونقول إن علاقتنا لم تشهد تقلباتٍ، لكن حتى عندما كانت العلاقات السياسية متوتّرة كان التعاون الاقتصادي بين بلدينا في نمو مستمر".
زيارة وزير الخارجية التركي إسرائيل هي الأولى لمسؤولٍ تركي بهذا المستوى منذ 15 عاماً
بدا أوغلو مرتاحاً لزيارته هذه، وهي الأولى لمسؤولٍ تركي بهذا المستوى منذ 15 عاماً. وتندرج، في شقها الإسرائيلي، في إطار سياسة تصفير المشكلات مع دول المنطقة، وكانت سبقتها زيارة لرئيس دولة الاحتلال، إسحق هيرتزوغ، أنقرة في التاسع من مارس/ آذار الماضي. وفي الشقّ الفلسطيني من الزيارة، كرّست هذه المناسبة تمتين العلاقات مع السلطة الفلسطينية، ومنحها طابع علاقاتٍ سياسيةٍ بين دولتين. ولسنوات خلت ليست قصيرة، كانت أنقرة تبدو أقرب إلى حركة حماس، وأكثر تواصلا معها مما هو الأمر مع السلطة الفلسطينية، في وقتٍ واظبت فيه أنقرة على الدعوة إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني بين السلطة في رام الله وسلطة حركة حماس في قطاع غزة. وكانت الفقرة الأكثر إثارة للاهتمام في زيارة الوزير التركي زيارته، يوم الأربعاء 25 مايو/ أيار، المسجد الأقصى بدون حراسة أو مواكبة إسرائيلية، وباستضافة من دائرة الأوقاف في القدس. وهي زيارة بالغة الأهمية في هذا الظرف الذي ما فتئ فيه المسجد يتعرّض لحملة استباحةٍ شرسةٍ من المستوطنين وغلاة الأحزاب الصهيونية الدينية وغير الدينية. وفي هذا السياق، أصدرت محكمة إسرائيلية قبل أيام قراراً يتيح لليهود الصلاة في باحات أحد أقدس مراكز العبادة للمسلمين. وترتدي زيارة المسؤول التركي الرفيع أهمية إضافية، لكون تركيا تترأس منظمة التعاون الإسلامي، وقد لوحظ أن صوت المنظمة التي تضم أكثر من 50 دولة مسلمة كان خافتاً ومخيّباً، فيما كانت القدس ومقدّساتها خلال الشهور الماضية مسرحاً لتعدّيات جسيمة من دولة الاحتلال، وهو ما أقرّ به ضمناً الوزير التركي الذي أدّى الصلاة في قبة الصخرة وفي المسجد القبلي المسقوف، إذ قال، في زيارته، إن بلاده "تبذل قصارى جهدها كي لا تهمل منظمة التعاون الإسلامي، وكل البلدان الإسلامية، القدس والمسجد الأقصى".
وفي ضوء زيارة أوغلو وتصريحاته، لقائلٍ أن يقول إن مسيرات التطبيع مع تل أبيب لطالما اقترنت بإطلاق تصريحات، وبالأحرى سوق ديباجاتٍ مفادها بأن الاقتراب من الدولة العبرية وإقامة علاقات كاملة معها إنما يرمي، بين ما يرمي إليه، إلى دعم الحقوق الفلسطينية وإحياء المسار السياسي التفاوضي بين فلسطين وإسرائيل، وأن تصريحات أوغلو قد لا تخرج عن هذا المنحى الذي تبيّنت نتائجه سابقاً في مكافأة إسرائيل على احتلالها، بغير أن تدفع أي ثمن سياسي. وبدون أن يجني الطرف الفلسطيني شيئاً سوى استقواء دولة الاحتلال عليه ومضاعفة حملات التنكيل والعقوبات الجماعية ومصادرة الأراضي وتوسيع الغزو الاستيطاني.
ومن حق المعني، كما المراقب، إبداء التطيّر من الاندفاع الى التطبيع مع الدولة العبرية، مع نقض الالتزامات العربية والمواثيق الدولية بخصوص ركائز أية تسوية عادلة، غير أن واقع الحال يكشف أن مسارات التطبيع مع تل أبيب لا تتخذ وجهة واحدة، أو مضموناً واحداً، ويستذكر المرء أولى حلقات التطبيع، حينما أقدمت دول عربية أواسط التسعينيات على تبادل فتح مكاتب تمثيلية مع تل أبيب في أعقاب توقيع اتفاق المبادئ (أوسلو) بين فلسطين وإسرائيل خريف عام 1993، وجرى تبادل زيارات وفود من الجانبين، إلا أن هذه المكاتب لم تلبث أن أغلقت مع تنصّل الجانب الإسرائيلي من الاتفاقيات مع الجانب الفلسطيني.
أما التطبيع القائم على معاهدات، كما في حالتي مصر والأردن، فقد جاء في سياق استعادة أراضٍ للبلدين، وظلت الشؤون الاقتصادية والأمنية تطغى على علاقات الدولتين مع تل أبيب، وسط رفض شعبي كاسح ومقنّن لمسار التطبيع، وذلك بخلاف الاتفاقيات الإبراهيمية التي وقعت مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، إذ جاءت مسارات التطبيع في إطار مخاوف إقليمية من النفوذ الإيراني، وسعياً إلى إقامة علاقات تعاون كاملة، كما هو الحال مع الإمارات والبحرين، فيما خضعت الاتفاقيتان مع السودان والمغرب إلى مبدأ المقايضة برفع اسم السودان عن قائمة الإرهاب في حالة هذا البلد، والاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء الغربية في حالة المغرب.
ارتسامات تطوير العلاقات الثنائية في أذهان المسؤولين الأتراك تمنح أهمية خاصة للتجارة، ولاستقدام مزيد من السياح الإسرائيليين
أما في الحالة التركية، فإنه لا غنى عن الأخذ في الاعتبار أن تركيا ليست بلداً عربياً أو عضواً في جامعة الدول العربية، وأن العلاقات الإسرائيلية التركية قديمة العهد ومتقلبة أيضاً، إذ كانت تركيا أول بلد إسلامي يعترف بالدولة العبرية في مارس/ آذار 1949، وأقيمت علاقات دبلوماسية في العام التالي. وعلى الرغم من الانطباع بأن علاقات الطرفين ظلت وثيقةً حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، إلا أن ثمّة محطة مهمة تعود إلى عام 1956 حين خفّضت أنقرة علاقاتها مع تل أبيب من مستوى سفير إلى مستوى قائم بأعمال، وذلك احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر الذي شاركت فيه إسرائيل إلى جانب بريطانيا وفرنسا. وظلت العلاقات على هذا المستوى إلى مطلع عام 1980، حين أعيد تبادل السفيرين، ولكن لأشهر فقط، حيث اهتزّت العلاقات بشدة، إثر إعلان الاحتلال القدس "عاصمة أبدية" له، فتم إغلاق القنصلية التركية، وانخفضت العلاقات إلى أدنى مستوى، ولم تعد العلاقات إلى مستوى سفير إلا في عام 1992. وخلال تلك الفترة، اعترفت تركيا بإعلان استقلال دولة فلسطين عام 1988. ومع عام 1994، توثقت العلاقات التركية الإسرائيلية، وخصوصاً في المجال الأمني والتعاون العسكري متعدّد الأوجه، إلى أن بدأت هذه العلاقات تشهد انحساراً متزايداً مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بأصوات الناخبين.
وبينما كان التعاون العسكري واسع النطاق هو ما يسم العلاقات التركية الإسرائيلية في أواخر القرن الماضي ومطلع الألفية الحالية، فإن ارتسامات تطوير العلاقات الثنائية في أذهان المسؤولين الأتراك تمنح أهمية خاصة للتجارة، ولاستقدام مزيد من السياح الإسرائيليين. وهذا من دون استبعاد التعاون الأمني بين الجانبين، وبخاصة أن بلاد الأناضول ظلت، خلال فترة غير قصيرة، مسرحاً لأنشطة أجهزة استخبارات أجنبية، ومنها على الخصوص ما يعود إلى إسرائيل وإيران.