في غياب قسم أبقراط
عندما ردّدتُ، كغيري من الأطباء المقبلين على تحمّل مسؤولية الأداء المهني والضمير عند انتسابي إلى نقابة الأطباء في سورية، خلف نقيب الأطباء القسم الطبي المستوحى من قسم أبقراط، كنت مغمورة في موج من المشاعر الرهيفة، المشاعر فائقة الرومانسية والفروسية، كيف لا وأنا مُقدمة على أداء دور لصيق بكل القيم والمبادئ الإنسانية؟ دور يجعل مني، بشكل تلقائي، فوق كل النزعات، ما عدا النزعة نحو صوْن الحياة الإنسانية وحمايتها في كل تجلياتها؟
أزعم إن هذه المشاعر قد انتابت غالبية من أقبلوا على هذه المهنة، في كل العالم، ربما في لحظتها لا يمتلك الطبيب المقدم على هذه المهنة النظرة الشاملة إلى كل ما يمكن أن تضعه الظروف فيه من اختبارات المواقف والسلوك والأداء، وإلى ما يمكن أن تفعل الأيام وما يحدث في نفسه من اشتباك بين القيم والانتماءات والعقائد والفلسفات، قد تؤثّر على ذاكرة تلك اللحظة الرومانسية فائقة النبل والقيم السامية. لكن الرهان على الضمير في الدرجة الأولى.
يتعرّض الطبيب في كل لحظة من مسيرته المهنية إلى اختبارات كثيرة، إنما أكثرها شدّة وعمقًا تلك التي تواكب ظروف النزاعات، بكل أشكالها، وهنا يكمن التحدي الأكبر، انتصار النفس على ذاتها والرجوع إلى ذاكرة القَسم الأول، قَسم جدّنا أبقراط الذي عُدّ أبا الطب، وأشهر أطباء عصره، لكن الفجيعة الكبرى تكمن في تجرّد الطبيب من هذه الذاكرة ونكرانها إذا ما انصاع إلى إرثٍ ثقافيٍّ أو عقيدة تجعله في خندق آخر، يواجه شرف هذه المهنة الذي أسّس له أبقراط منذ آلاف السنين، كي يكون الطبيب حارسًا أمينًا على القيم التي تصون الحياة الإنسانية. هذا ما يجري في غزّة اليوم مدعومًا، ويا للعار، بإصرار أطباء يعدّون بالعشرات، وربما أكثر، على قصف المستشفيات في غزّة، ودعم ما تقوم به إسرائيل من إجرام يرقى إلى الإبادة.
ما يحصل في غزّة، ومنذ الأيام الأولى للحرب، نسف لكل القوانين الدولية والإنسانية والأخلاقية، وحرب المستشفيات أحد أهدافها المعلنة بلا مواربة
أصدرت منظمة الصحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، في 1948، ما عُرف ببيان جنيف لأخلاقيات ممارسة المهنة الطبّية، وكان قد سبقه ميثاق نورمبيرغ لعام 1947، والذي يتعلق بأخلاقيات مهنة الطب، سيما التجارب العلمية على البشر، بعد الجرائم من هذا النوع التي ارتكبتها النازية حينها. وجرى تعديل البيان مرّات ليواكب التطوّرات والتغيّرات التي طرأت على العالم، وصارت هناك قوانين ناظمة، بالإضافة إلى القواعد الدولية في مجال الأخلاقيات الطبية، ترمي إلى تحقيق هدفين يكملان بعضهما بعضًا: حماية المريض من سوء السلوك من الطبيب وأيضًا حماية الطبيب من الضغوط الاجتماعية والسياسية.
في حالات النزاع، تنص اتفاقيات جنيف على وجوب حماية الجرحى والمرضى دون تمييز، وبما يتفق مع قواعد أخلاقيات مهنة الطب. وهذا الشرط في صلب القانون الدولي الإنساني. كذلك يجب احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية المدنيين، ويجب تقديم كل المساعدة الممكنة لهم لأداء واجباتهم. تنصّ القاعدتان 25 و28 من دراسة القانون الإنساني العرفي على الالتزام باحترام أفراد الخدمات الطبّية وحمايتهم في كل الظروف، وكذلك الوحدات والخدمات الطبية. لكن ما يحصل في غزّة، ومنذ الأيام الأولى للحرب، هو نسف لكل القوانين الدولية والإنسانية والأخلاقية، وحرب المستشفيات أحد أهدافها المعلنة بلا مواربة، إذ لم تتوقّف إسرائيل عن استهدافها بشتّى الطرق المتاحة لها، على الملأ، من دون الاكتراث بالرفض الشعبي الذي يتنامى وتزداد رقعته في كل بقاع الأرض، حتى إنها وضعت بعض الأنظمة الداعمة لها بلا قيود في مواقف محرجة أمام الرأي العام لديها، فهي استهدفت الطواقم الصحية والطبية، عدا استهدافها المدنيين ولحقتهم إلى المشافي، وهم جرحى ومصابون وغير قادرين على الحركة، ومهدّدون بالموت الذي لم توفر أسبابه عليهم، عندما قطعت الكهرباء والوقود والأدوية والإنترنت وكل أسباب العناية الطبية بهم وصوْن حيواتهم، "لا يجوز مطالبة أفراد الخدمات الطبية بإعطاء أي شخص الأولوية في أدائهم لواجباتهم إلا على أسس طبية" (البروتوكول 2 المادة 9-2)". فأي ألم يسبّبه اتخاذ قرار الأولوية لدى الطبيب في مشافي غزّة، وكل من بين أيديهم أمانة توضع في مقدمة الأولويات، وهم مكبّلو الأيدي؟
الاتكاء على الأساطير التوراتية التي تشد عصب الشعب اليهودي في إسرائيل كلّما ارتخى قليلًا يشير إلى تشابك النزعة القومية بالنزعة الدينية في أقصى تطرّفهما وعنصريتهما
وصل القتل إلى الخدّج في حواضنهم. فمن أيّ تربةٍ عجنت ضمائر القادة الغربيين الداعمين وحشية إسرائيل بلا قيود، فلا يهزّهم مشهد هؤلاء الخدّج وهم يُنقلون على أحضان الأفراد العاملين في القطاع الصحّي في مشفى الشفاء بعد أن توقف عن العمل، ملفوفين بشراشف غرف العمليات فحسب، مفصولين عن الأجهزة الطبية التي تعزّز حياتهم في الحواضن حتى يصبحوا قادرين على العيش؟ بل منهم، على ما تظهره الكاميرات، مصابون بعد أن انتشلوا من تحت القصف، وماتت أمهاتهم في لحظات الولادة بسبب القصف الوحشي؟ ومنهم من ما زالت أنابيب التغذية الفموية أو الدموية معلقة بأجسادهم النحيلة. منهم من يبكون، وهذا دليل حياة تعاند بقوة، ومنهم من ناست أصواتهم وحركاتهم يعاندون الموت، كيف لا تتأثّر ضمائر هؤلاء "الكبار" دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، بمنظرٍ كهذا؟ هل هؤلاء الخدّج إرهابيون؟ أم الكارثة الكبرى والعار بحقّ الإنسانية أن يسمعوا حكاية العماليق على لسان قائد الحرب والسياسة الإسرائيلية رئيس الحكومة الأكثر تطرّفًا ووحشية، بنيامين نتنياهو، ويسكتوا عليها، فيصير مشهد الخدّج، وقبله أطفال غزّة الذي قتلوا أو بترت أطرافهم، مشهدًا عاديًّا تشرعنه القضية الكبرى: حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. هذا الاتكاء على الأساطير التوراتية التي تشدّ عصب الشعب اليهودي في إسرائيل كلما ارتخى قليلًا يشير إلى تشابك النزعة القومية بالنزعة الدينية في أقصى تطرّفهما وعنصريتهما، ما يدفع إلى مزيد من الإجرام والوحشية.
لو عاد أبقراط إلى الحياة، أما كان حاكَم دعاة القتل والإبادة على انتهاكهم قسمه وادّعائهم أنه عتبة دخولهم هذه المهنة النبيلة؟
قصف المستشفيات والمنشآت الصحية ومحاولة إخراج أكبر عدد منها من الخدمة رسالة واضحة لا تحتمل التشكيك فيها، أن ما ترمي إليه إسرائيل هو الإبادة وقتل أكبر عدد ممكن من سكان قطاع غزة، وإن رؤية المواليد الخدّج كالعصافير التي لم ينبت زغبها، تفتح فمها طلبًا للماء والغذاء، حقّها في الحياة، لهو صفعة على خدّ الضمير العالمي، الذي يحتاج، على ما بدا من سلوك قادة العالم الداعم لإسرائيل بشكل مطلق، صدمة كهربائية أكثر مما يحتاج صفعة على خدّه الخالي من الدماء.
إذا كان هذا الاختراق الفاجر لكل الشرعة الإنسانية والمواثيق والقوانين الدولية مقبولًا عند البعض، أو قابلًا للنقاش، كيف يمكن قبول انحياز بعض الأطبّاء في إسرائيل بدعوتهم إلى قصف المستشفيات، وهم من يفترض أنهم أقسموا يمين شرف المهنة، وأنهم عاشوا لحظات من الإثارة النبيلة وطغيان مشاعر إنسانية على وجدانهم عندما أقسموا متذكّرين نبل أعظم الأطباء في عصره؟ كيف نفهم موقف العالم المتحضّر الداعي إلى الديمقراطية والعدالة الإنسانية، عندما استبشرنا خيرًا بمحاكمة أطباء عذّبوا مصابين من أبناء الشعب السوري ممن تظاهروا في وجه الظلم، ولم يدينوا عشرات الأطباء الذين وقّعوا عريضة الدعوة إلى القتل الجماعي لمرضى المستشفيات في غزّة وأجهزتها الصحية والعاملين فيها؟ أي ازدواجية في الضمير هذه؟ أم إن إسرائيل هي الابنة المدلّلة للغرب بماضيه الاستعماري، ويحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها في الدفاع عن وجودها، بينما الشعب الفلسطيني لا يرقى إلى مستوى البشر، فتصبح إبادة بواكير الحياة لديه أمرًا مشروعًا في استراتيجية المستقبل، ونزع الخدّج من حواضنهم أمرًا يتطلّبه هذا الحقّ في الدفاع عن النفس؟ لو عاد أبقراط إلى الحياة، أما كان حاكَم دعاة القتل والإبادة على انتهاكهم قسمه وادّعائهم أنه عتبة دخولهم هذه المهنة النبيلة؟