11 نوفمبر 2024
في متحف باردو
ليست وظيفة المتاحف أن تُلملم حجارةً وأواني ونحاسياتٍ وفسيفسائياتٍ عتيقةً في قاعاتٍ واسعة، لعرضها أمام الجمهور العام، فحسب. وليست القيمة الأهم لهذا المتحف أو ذاك، أو تمايزه وتميّزه، في كثرة أعداد القطع واللّقى، الكبيرة والصغيرة. إنما القيمة هذه في الذي تحيل إليه هذه الأشياء الموروثة من حياةٍ كانت في أزمنتها، أو على الأصحّ إلى إيقاع الحياة القديم الذي كان عليه الناس في هذا البلد إبّان تلك الحقبة زمن تلك الحضارة. لم تكن الدنيا لملوكٍ وآلهةٍ وأباطرةٍ وقادة جيوش وأبطال وفاتحين فقط، كان في زمن هؤلاء ناسٌ يفلحون، ويأكلون ويشربون، ويصنعون وينقشون ويتداوون. طبيعيٌّ أن عروش الأباطرة وكراسي الحكام، والحريم حواليهم والمستشارين والخدّام والوزراء ينحنون قدامهم، طبيعيٌّ أن صور ورسوما لهذا كله، وكذا التماثيل المنحوتة لأولئك القادة، الحاكمين، الحكماء، القدّيسين، الطغاة، وغيرهم، بقاماتهم المديدة، وأثوابهم المنسرحة عليهم، جاذبة للعيون، تشيع رغبةً في التملّي فيها، ولكن هذا غير أساسيّ تماما في زيارتك أيّ متحف، أو يحسُن أن لا يكون الأساسي، فثمّة لوحاتٌ لسفنٍ جابت بحارا، أو بقايا أخشاب سفينةٍ، ثمّة فخارياتٌ كان يُطبخ فيها أو يُؤكل منها، ثمّة صحونٌ عليها زخارف وتلويناتٌ، ثمّة كؤوسٌ، أحذيةٌ، أرديةٌ، جرار ماء، أمشاط للشعر، مسكوكاتٌ وعملات.. ثمّة مجتمعاتٌ قامت هنا، في هذه الفيافي والمدائن، وعند شطآن هذه البحار، وعلى جانبي تلك الأنهار.
هذا بالضبط هو ما ينطق به متحف باردو البديع في تونس، وهو تحفةٌ معماريةٌ حقا. أتيح لي طوافٌ في طوابقه الثلاثة، وقاعاته التي تزيد عن العشرين. صحيحٌ أن مداركي احتلّها بدايةً أن هذا المكان البهيّ تعرّض إلى اعتداء إرهابي آثم، قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، قضى فيه اثنان وعشرون سائحا أجنبيا وشرطي تونسي، وأصيب نحو خمسين. غادَرَت وقائعُ الجريمة العصيّة على النسيان خواطري، فانصرفتُ إلى الفسيفسائيات الشاسعة، الكثيرة، متنوعة المساحات، والفريدة في لوحاتٍ متعدّدة الإحالات إلى أزمنتها وموضوعاتها. وهذا المتحف يضم أضخم مجموعة فسيفساء في العالم، عددا وقيمة. قرأتُ أن هذه اللوحات هنا، والتي تُبهرك عتاقتُها واحتفاظها بجمالها الفاتن، مرجعٌ أساسي لمعرفة مظاهر الحضارة والثقافة في تونس قبل الإسلام.
إلى اللوحات التي تتمثّل فيها آلهةٌ كثيرة، أو كائناتٌ خرافيةٌ وأسطوريةٌ، أو ربّات جمالٍ مغويات، وإلى لوحتي البطل الإغريقي، أوليس، وإله البحر، نبتون، ثمّة لوحاتٌ تؤشّر إلى ترفٍ كان عليه سكان تونس في الحقبة الرومانية، وأخرى تُحيل إلى خصوبة الأرض وتنوّع منتوجها، من غلال وزيت وقمح. وتصادفك، مثلا، لوحةٌ من القرن الثالث الميلادي تصوّر ثلاثا وعشرين سفينة، تحمل بعضُها غلالا للتصدير.
كل هذه الفخّاريات، هذه الطيور المرسومة على الصحون والأواني، هذه البجعات الهاجعة، أو السابحة في المياه، كؤوس الشراب، كل هذه الفخاريات، الأطباق، الجرار، الأباريق، كل هذه الزينة المُترفة، كل هذه المصنوعات، هذه الفنون، .. تُرى من الذين أبدعوها، كيف صنعوها، كم أوقاتا أنفقوها وهم يحفرون وينقشون ويحرقون ويجبلون ويتقنون ويرمّمون، وهم يبثّون حياةً تضج بالمتعة والبهجة في حجارةٍ وطينٍ وجصٍّ وفي ما لا أعرف؟ .. هذه بعض أسئلةٍ تتراسل في خواطرك، وأنت تنعطفُ من قاعةٍ إلى أخرى، من حضارةٍ إلى أخرى، من أزمنةٍ إلى أخرى، من قبل الميلاد إلى ما قبل نحو مائة عام، من الرومان العتاقى وعهودٍ مسيحيةٍ ناهضةٍ قديمةٍ إلى الحفصيين والفاطميين في عهود الإسلام، مرورا بحقبٍ بيْنية.
لستُ مختصّا بالتاريخ، ولا شأن لي بالقدامى، بل عملي مطاردة ما هو شديد الراهنيّة، والمستجد في وقته. تغادر والصديق وليد المكان، تغادر أنفاس تونس في أزمنةٍ مضت، بعد وقتٍ مستقطعٍ في تجوال عابر، كافٍ لتأملٍ طفيفٍ، ولمشاهدةٍ وقعت، ولو إلى حد ما، على غنىً حضاريٍّ وإنسانيٍّ وثقافيٍّ عالي القيمة، أبدعه إنسان هذا البلد في ذلك الماضي، فتزداد يقينا بأنه سيتحدّى أي عثرات، وسينتصر، في راهنه ومستقبله، للحياة.
هذا بالضبط هو ما ينطق به متحف باردو البديع في تونس، وهو تحفةٌ معماريةٌ حقا. أتيح لي طوافٌ في طوابقه الثلاثة، وقاعاته التي تزيد عن العشرين. صحيحٌ أن مداركي احتلّها بدايةً أن هذا المكان البهيّ تعرّض إلى اعتداء إرهابي آثم، قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، قضى فيه اثنان وعشرون سائحا أجنبيا وشرطي تونسي، وأصيب نحو خمسين. غادَرَت وقائعُ الجريمة العصيّة على النسيان خواطري، فانصرفتُ إلى الفسيفسائيات الشاسعة، الكثيرة، متنوعة المساحات، والفريدة في لوحاتٍ متعدّدة الإحالات إلى أزمنتها وموضوعاتها. وهذا المتحف يضم أضخم مجموعة فسيفساء في العالم، عددا وقيمة. قرأتُ أن هذه اللوحات هنا، والتي تُبهرك عتاقتُها واحتفاظها بجمالها الفاتن، مرجعٌ أساسي لمعرفة مظاهر الحضارة والثقافة في تونس قبل الإسلام.
إلى اللوحات التي تتمثّل فيها آلهةٌ كثيرة، أو كائناتٌ خرافيةٌ وأسطوريةٌ، أو ربّات جمالٍ مغويات، وإلى لوحتي البطل الإغريقي، أوليس، وإله البحر، نبتون، ثمّة لوحاتٌ تؤشّر إلى ترفٍ كان عليه سكان تونس في الحقبة الرومانية، وأخرى تُحيل إلى خصوبة الأرض وتنوّع منتوجها، من غلال وزيت وقمح. وتصادفك، مثلا، لوحةٌ من القرن الثالث الميلادي تصوّر ثلاثا وعشرين سفينة، تحمل بعضُها غلالا للتصدير.
كل هذه الفخّاريات، هذه الطيور المرسومة على الصحون والأواني، هذه البجعات الهاجعة، أو السابحة في المياه، كؤوس الشراب، كل هذه الفخاريات، الأطباق، الجرار، الأباريق، كل هذه الزينة المُترفة، كل هذه المصنوعات، هذه الفنون، .. تُرى من الذين أبدعوها، كيف صنعوها، كم أوقاتا أنفقوها وهم يحفرون وينقشون ويحرقون ويجبلون ويتقنون ويرمّمون، وهم يبثّون حياةً تضج بالمتعة والبهجة في حجارةٍ وطينٍ وجصٍّ وفي ما لا أعرف؟ .. هذه بعض أسئلةٍ تتراسل في خواطرك، وأنت تنعطفُ من قاعةٍ إلى أخرى، من حضارةٍ إلى أخرى، من أزمنةٍ إلى أخرى، من قبل الميلاد إلى ما قبل نحو مائة عام، من الرومان العتاقى وعهودٍ مسيحيةٍ ناهضةٍ قديمةٍ إلى الحفصيين والفاطميين في عهود الإسلام، مرورا بحقبٍ بيْنية.
لستُ مختصّا بالتاريخ، ولا شأن لي بالقدامى، بل عملي مطاردة ما هو شديد الراهنيّة، والمستجد في وقته. تغادر والصديق وليد المكان، تغادر أنفاس تونس في أزمنةٍ مضت، بعد وقتٍ مستقطعٍ في تجوال عابر، كافٍ لتأملٍ طفيفٍ، ولمشاهدةٍ وقعت، ولو إلى حد ما، على غنىً حضاريٍّ وإنسانيٍّ وثقافيٍّ عالي القيمة، أبدعه إنسان هذا البلد في ذلك الماضي، فتزداد يقينا بأنه سيتحدّى أي عثرات، وسينتصر، في راهنه ومستقبله، للحياة.