في محاذير مشروع "سحب الجنسية الجزائرية"
تدرس الحكومة الجزائرية مشروع قانونٍ يجيز سحب الجنسية من مواطنيها المقيمين خارج البلاد، وترى السلطات أنهم "يضرّون بمصلحة الجزائر"، ما من شأنه الدفع إلى مزيد من تقليص فرص انفراج الأزمة السياسية التي تعيشها الجزائر، فالإجراءات المشدّدة تجاه المعارضين السياسيين في الخارج والداخل تعكس مدى خطورة الأزمة واستفحالها، وابتعاد إمكانية الوصول بها إلى برّ الأمان، من أجل مصلحة الجميع، سلطة ومعارضة. وقد قدَّم وزير العدل، بلقاسم زغماتي، مشروع سحب الجنسية الأصلية أو المكتسبة من كل مقيم خارج التراب الوطني يقوم "بأفعال تلحق عمدا ضررا جسيما بمصالح الدولة أو تمسّ بالوحدة الوطنية أو من يقوم بنشاط أو انخراط في الخارج في جماعة أو منظمة إرهابية أو تخريبية أو يقوم بتمويلها أو الدعاية لصالحها". وفيما اعتبرت المعارضة مشروع القانون خطوة في مسار التشديد والإقصاء، نظرت إليه الموالاة وسيلة لقطع الطريق أمام من تقول إنهم يشوهون صورة البلد ويتآمرون على مستقبله.
تكمن العقدة في تفاصيل الاحتقان والحسابات السياسية التي ترهن العلاقات بين السلطة والمعارضة. تحاول السلطة تشديد قبضتها على المناوئين لها. مثالا، عامر قراش، شاب كان في الصفوف الأمامية للحراك منذ انطلاقته في 2019 في ولاية ورقلة جنوبي الجزائر، لم يسمع باسمه أحد من قبل، إلى أن صدر حكم قضائي بسجنه سبعة أعوام، بتهم عن علاقة ب"الإرهاب". يقول محاميه "إن القضاء لم يُقدِّم أدلة تُثبت تورّطه". ويرى كثيرون أن الحكم القضائي ليس إلا رسالة تشديد، ووعيد لشباب الحراك الذي عاد إلى الشوارع بشعارات مناوئة للسلطة، ومشاريعها التي لم تخرج عن عادة تكريس الوجود، وعدم الانتباه إلى المعروض من بدائل سياسية يمكنها الإبقاء على جسم الدولة سليما، قائما، وبعيدا عن كل تناطح تسُوقُه ريح عقيمة، لا ترى إلا الاستمرارية حلا وجوديا لجهاز السلطة.
تجدّدت المسيرات في العاصمة الجزائرية، خرج آلاف في مظاهرة تُذكِّر بمطالب الحراك الشعبي. رفعوا شعارات تطالب بتمدين نظام الحكم، وأخرى رافضة للتعديلات المقترحة على قانون الجنسية
يركز مشروع قانون سحب الجنسية على ناشطين جزائريين في الخارج، أوروبا خصوصا، يخوضون حملات انتقاد شديدة اللهجة ضد السلطة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتعبئة مواطني الداخل، أو مباشرة بالمشاركة في مسيرات أو تنظيمات. لعل أهم من يشار إليهم إعلاميا حركة "رشاد"، التي يتزعمها مناضلون في جبهة الإنقاذ الإسلامية، المُنحلَّة، أو مستقلون لا ينتمون إلى أي فصيل سياسي معروف، ولكنهم شديدو المناوأة للسلطة الفعلية الراهنة، بينما تنفرد "حركة استقلال القبائل" التي يقودها فرحات مهني بالمطالبة بالانفصال عن الجزائر، وتأسيس حكومة مستقلة، لا تنفخ في روحها حاليا سوى إسرائيل.
تجدّدت المسيرات في العاصمة الجزائرية، خرج آلاف في مظاهرة تُذكِّر بمطالب الحراك الشعبي. رفعوا شعارات تطالب بتمدين نظام الحكم، وأخرى رافضة للتعديلات المقترحة على قانون الجنسية. تقول وسائل إعلام السلطة الحكومية والخاصة إن مسيرات الحراك أخيرا شابها "ظهور شعارات استغلت مظاهرات شعبية لتمرير رسائل إرهابية تُهدّد أمن البلاد وسلامتها". وتتحدّث وسائل الإعلام ذاتها عن اكتشاف أجهزة الأمن مخططات لزعزعة الأمن العام، وشبكات دعم، وقنبلة كانت معدّة للتفجير في العاصمة. وتُعيد مثل هذه الأخبار إلى الذهن مشاهد تسعينيات القرن الفائت، تستعير أبجدياته نفسها، وتطرح أسئلة الراهن السياسي، الهارب من عقال التفاهمات والسكينة. تتسلّل إلى الحراك أيضا بعض الشعارات المنفلتة: "مخابرات إرهابية، تسقط مافيا العسكر"، فيتخوف العقلاء من أهل الحراك، من تشابك الخيوط واختلاطها، وضياع مكاسب، كان يمكن ترقيتها، لو كُتب للحراك توجه أكثر براغماتية، وقُدِّمت خلاله تنازلات متبادلة.
يطرح سؤال النزاهة في تطبيق قانون الجنسية المذكور نفسه بإلحاح، فشبهة تخوين أي رأي مخالف لسياسة الحكومة، قائمة في أي نظام شمولي
ويذكّر مشروع قانون سحب الجنسية الجزائريين في الخارج بقوانين أخرى، تشترط تخلِّيهم عن جنسيتهم الأجنبية المكتسبة، قبل تقدّمهم لأي فرصة عليا في أجهزة الدولة، وهو أمر يعتبرونه إقصاء منهجيا لهم، وعملية تصفية حسابات سياسية مقصودة. ويطرح سؤال النزاهة في تطبيق قانون الجنسية المذكور نفسه بإلحاح، فشبهة تخوين أي رأي مخالف لسياسة الحكومة، قائمة في أي نظام شمولي. يقول المدافعون عن مشروع القانون إن جرائم الخيانة، بحسب إحصائيات البرلمان الأوروبي، يمكن أن تكون سبباً لسحب الجنسية في 15 دولة في الاتحاد. يقول رافضون للقانون إن ذلك يحدث في أوروبا، وشتان بين الديمقراطية هناك وحالها البائس في بلداننا.
أما تهمتا "المساس بالمصلحة العليا للدولة" و"المساس بالوحدة الوطنية" فجريمتان لا يُمكن تحديدهما بسهولة، عندما يتعلق الأمر بالعمل في حقل السياسة والرأي. يخشى كثيرون من تحوّل القانون المُقترح إلى قانون يُجرِّم الفعل السياسي، ويحدُّ من جدل الرأي، واختلاف وُجهات النظر، يغلق الحقل السياسي على الرأي الآخر، ويُعبِّد الطريق للعقل الأمني، بغرض السيطرة على المشهد السياسي جملة وتفصيلا. أمر توقعه السياسيُّ الجزائري المرحوم، عبد الحميد مهري، حين قال: "سيأتي يوم تبحث فيه السلطة عن معارضة نزيهة ومسؤولة لتُخمد بها أي غضب شعبي، ولن تجدها".