في مديح صعصعة بن ناجية
كان شديد الغِلظة على إدراكاتنا الغضّة، إبّان كنّا في الابتدائية، أن يُخبِرنا مدرّسونا، إن العرب في الجاهلية كانوا يئدون البنات، وإن الإسلام أنهى هذا الفعل القبيح الذي ربما من أول أخبارٍ تصلُ إلى أفهامنا عن جرائم فادحة. .. يا إلهي، كيف هذا؟ يأخذون البنت الرضيعة، أو الطفلة الصغيرة، ويدفنونها في قبر، وهي تتنفّس وتتحرّك؟ ولكن، من أين جاءت الزوجات اللوائي يلِدن البنات؟ كيف نجت، إذن، هند بنت عُتبة، التي دبّرت قتل حمزة بن عبد المطلب؟ من أين كنّ أولئك الراقصات في مجالس أبي جهل وأبي لهب وغيرهما من كفّار قريش، وهم يشربون الخمر؟ كانت هذه من بين أسئلةٍ تحيّر أمخاخَنا، ونحن نقلّب في مخيّلاتنا الطريّة مشاهد دفن بناتٍ صغيراتٍ أحياء، كما التي شخّصوها في أفلام سينما ومسلسلات تلفزيونية، شاهدْناها لمّا صِرنا فتيةً يافعين، لنزيد معرفةً بسماحة الإسلام الذي جاء يُنهي ما كان عليه العرب من جاهليةٍ، ويوقِف وأدهم البنات، تفاديا لعارٍ قد يجلبْنه عندما يكبُرن، على ما كانوا يفترضون.
لم يحدّثنا أحدٌ، في تلك الأثناء، لا في منازلنا ولا مدارسنا، أن رجلا من أشراف بني تميم، اسمُه صعصعة بن ناجية، عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام، فصار ممن حسُن إسلامهم، وعدّته مصادرُ صحابيا، كان يفتدي البنات، ويُنجيهنّ من الوأد. ذُكر أنه "أحيا" ألف موءودة، و"حُمل على ألف فرس". وكُتب إنه حدّث عن نفسه إنه آلى ألا يئدَ أحدٌ بنتا له إلا اشتراها منه بلقوحيْن (ناقتين ولودتيْن وغزيرتي اللبن) وجمَل. وقال "فبعث الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد أحييتُ مائة موءودةٍ إلا أربعا، ولم يُشركني في ذلك أحد، حتى أنزل الله تحريمه في القرآن". وفي مرويةٍ أخرى عنه إنه استحيا ثلاثمائة وستين.
إذن، حقّ لهذا العربي العتيق أن يُؤتى على اسمِه عندما يُتحدَّث عن تحرير المرأة، بل وعن تمكينها أيضا. من المروءة والوفاء، والموضوعية قبلا وبعدا، أن يكون أول من يذكرونه، عندما يستعرضون أعلاما عربا وأعاجم ساهموا في هذا وذاك منذ بواكير التاريخ، وصولا، مثلا، إلى عضوية رشيدة طليب في الكونغرس، مرورا بنضالات قاسم أمين والطاهر حدّاد وهدى شعراوي (دعك من "خرّافية" أن نجلاء بودن رئيسة حكومةٍ في تونس). ولكن ظلما مديدا طاولَه، لا بالتجاهل وحسب، بل أيضا بالتعمية على دورٍ ثوريٍّ وإنساني كبيرٍ كان يؤدّيه في حماية حقّ المرأة في الحياة، وليس فقط في حماية الأنوثة من أفظع جريمة يرتكبها مجتمعٌ أقام أعرافَه على ازدراء المرأة والخجل منها. وبذلك، إن كان صعصعة بن ناجية قد استحقّ مدح حفيدِه الفرزدق الذي أشار إلى "جدّه" في قصيدة فخرٍ يزهو به على خصمِه جرير، فإنه يستحقّ مدائحَ في زمننا كالتي تُزجَى لغيرِه ممن له سهمٌ بينهم. وعندما يختار صاحب هذه المقالة تثنيةً هنا على هذا العربي الجاهلي ثم المسلم، بمناسبة يوم المرأة العالمي، فهذا ليس تفضّلا عليه، بل إعطاؤه بعض حقٍّ منسيٍّ له.
أمر آخر لم يأتِ به مدرّسونا على مسامعنا بشأن وأد البنات في الجاهلية أن مقدارا (أو مقادير؟) من التشكيك في القصة كلها ربما يكون جائزا، فثمّة عقلٌ يقول إن هذا غير صحيح، أو أقلّه لم يكن بالاتساع الذي يجعلنا نسلّم بأنه كان من عادات العرب، كل العرب قبل الإسلام. ليس في وسعي الفتيا بحسمٍ مؤكّد في الأمر، غير أن للشواهد على أن ممارسة العرب وأد البنات خرافة، والتي يبسُطها الباحث السعودي، مرزوق بن تنباك، في كتابه "الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة" (مؤسّسة الرسالة، بيروت، 2014) مقادير من الوجاهة، تجعلك تأخُذ المسألة على أكثر من وجه، وقد اجتهد في محاولته تأكيد أن معظم الروايات في الموضوع اعتمدت على ما هو منتحَل وغير موثوق تماما. وذهب إلى أن "الموءودة" التي ذكرها القرآن الكريم "قُصد منها النفس، بغضّ النظر عن كونها ذكرا أو أنثى، يتخلّص منها دفنا، لأنها نتجت عن السفاح". ويستطرد الرجل في قرائنه ودلائله مما يمكن إسنادها (أو الإضافة إليها) أن شعوبا من غير العرب كان من ناسها مَن يئدون البنات، هناك في أقاليم في الهند وأخرى في الصين، بسبب الفقر غالبا. واحتراسا، الصحيحُ أن بعض ناسٍ فقط من بعض قبائل العرب كانوا يفعلون هذا الأمر القبيح، وإلا كيف تناسَل العرب، وكيف وصلت إلينا أخبارٌ عن شاعراتٍ ونساءٍ قائدات بينهم.
يا لهول ما كانوا يصنعون، أولئك الذين وأدوا بناتٍ، ويا لروعة ما كانت عليه روحُ جدّنا الدارمي الحنظلي التميمي صعصعة بن ناجية.