في مستقبل النظام المصري
انطلقت، منذ فترة، دعوات إلى التظاهر يوم 11/11 (أمس الجمعة) ضد النظام المصري بالتوازي مع مؤتمر المناخ المنعقد في شرم الشيخ من 6 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 18 منه، بحضور قادة ورؤساء دول كثيرين. لا يُعلم من يقف خلف تلك الدعوة، ومن هي الجهات الداعمة لها، لكنها، كغيرها من المظاهرات، تعاملت المجموعة الحاكمة في مصر معها بكل جدّية، فطبيعة التحالف الأمني الحاكم فرضت عليه التعامل مع الأمور، صغيرها وكبيرها. ولكن الاستعدادات هذه المرّة، لم تكن على المستويين، الأمني والإعلامي فقط، بل توافقت مع عقد مؤتمر اقتصادي كان الهدف منه، كما جرى ترويج ذلك، إقامة حوار اقتصادي لإيجاد سبيل وحل للأزمة الاقتصادية الراهنة. وبالرغم من وجود لجنة للحوار الوطني تشكّلت في رمضان الماضي، بغرض فتح المجال السياسي وإيجاد حوار بين المعارضة والتحالف الأمني الحاكم، إلا أن الآلة الأمنية تعمل بكامل طاقتها، فقد أغلقت الميادين وأوقفت الناس وفتشت هواتفهم، إلى جانب حملة اعتقالات واسعة طاولت أشخاصاً عديدين من مختلف الخلفيات السياسية. توافقت هذه الحملة الأمنية مع حملةٍ إعلاميةٍ شنّها إعلام هذا التحالف الحاكم. وكالعادة، توجيه أصابع الاتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين وعناصرهم، وحلفائهم، خلف دعوات التظاهر يوم الجمعة 11/11.
يجب ملاحظة أن هذه الدعوات جاءت في لحظةٍ حرجةٍ من عمر المجموعة الحاكمة، في ظل أزمة اقتصادية كبيرة، ستكون العامل الحاسم في مدى قدرتها على الاستمرار من عدمه. ولعل هذا ما جعل تلك المجموعة تعقد المؤتمر الاقتصادي، الذي لم يقدّم جديداً، ولم يستمع إلى أفكار جديدة للخروج من الأزمة الحالية، لكن كلمة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في المؤتمر، كانت محل التركيز، فقد دافع عن نفسه في مواجهة الانتقادات الموجّهة إلى سياسته الاقتصادية القائمة على الاستدانة، والتركيز على مشاريع لا تدرّ دخلاً سريعاً أو ترفع من قيمة الإنتاج المحلي. ولذلك ركّز على الدفاع عن نفسه وعن سياسته الاقتصادية، في مشهدٍ نراه للوهلة الأولى في مصر، منذ أن اعتلى السيسي السلطة في 2014. ويبدو أن المؤتمر كله كان بغرض خروج الرئيس والتحدّث إلى الناس وشرح الموقف الاقتصادي المعقد، ومدى عمق الأزمة الاقتصادية، مطالبا المصريين بمزيد من التحمّل على حد تعبيره. فالمؤتمر، في مجمله، كان عملية شراء للوقت ليس أكثر، على طريقة الحوار الوطني نفسها، حتى يستطيع كسب مزيد من الوقت، والعمل على تخفيف وطأة الأحداث، حتى يستطيع التحالف الحاكم ترتيب أوراقه، لكن الأزمة الحقيقية أن النظام لا يريد تقديم تنازلاتٍ لإجراء حوار سياسي أو اقتصادي حقيقيين، بل يريد من المعارضة أن تهرول للجلوس معه، مستخدِما في ذلك مبدأ سيف المعزّ وذهبه.
أهم ما جاء في المؤتمر الاقتصادي اعتراف الرئيس المصري بتوقف الدعم الإقليمي المقدّم له، وهو هنا يقصد الدول الخليجية الداعمة له في أعقاب الانتفاضة الثورية في يناير. والسؤال هنا: هل معنى هذا أن الرجل ومن معه تحولوا إلى عبء على داعميهم؟ بسبب أنه لم ينجح في خطته التي جاء من أجلها، إقامة ديكتاتورية تنموية تمنع قيام أي انتفاضة شعبية مستقبلية، يكون لها تداعياتها على المنطقة بأسرها، وهل معنى هذا أن دعوات التظاهر تلك قد تطيح المجموعة الحاكمة، أو سيسمح حلفاؤها بإطاحتها؟
ما يوجد في مصر اليوم ليس نظاما سياسيا، إنما مجموعة من التحالفات بين المؤسّسات، لتقوم بعملية مساندة لنفسها
يرى المتأمل للمشهد المصري أننا نشهد مرحلة أفول لرجلٍ جاء بدعم داخلي وإقليمي لم يأت به رئيس في تاريخ مصر الحديثة، إلا أن سياساته القمعية وفشل مشاريعه السياسية أوصلته إلى تلك المرحلة. وهي مرحلة يتسم فيها تحالفه الحاكم بالضعف وعدم القدرة على تحمّل أي ضغوط خارجية تواجهه في أيٍّ من الملفات، مثل ملف المعتقلين السياسيين والمطالبة بالإفراج عنهم، أو حتى التخلّي عن السلطة إذا خرجت الجماهير إلى الشوارع. .. وهذه الدعوات، حتى لو لم تنجح في الوصول إلى إحداث خروج ملايين إلى الشوارع، إلا أنها تعبّر عن حالةٍ من الرفض الشعبي الواسع للرجل وسياسته، والوضع الذي أوصل المصريين إليه. في الوقت نفسه، هي تمثل إحدى اللحظات التراكمية في مواجهة المجموعة الحاكمة. ولكن العامل الأهم والحاسم في إطاحة من هم في السلطة هو البنية التي جرى تأسيسها، فما يوجد في مصر اليوم ليس نظاماً سياسياً، إنما مجموعة من التحالفات بين المؤسّسات، لتقوم بعملية مساندة لنفسها، والإبقاء على تحالفاتها الداخلية، لتمنع أي أحدٍ من أن يقترب منها أو ينافسها، والاقتراب من مصالحها الاقتصادية، ناهيك عن انعدام الرؤية التي قد تستند إليها. فشلت هذه المجموعة حتى في أن تكون ديكتاتورية شمولية سلطوية، تستند إلى الحزب الحاكم الواحد الذي يحتكم إليه الجميع، ليقوم بعملية الموازنة بين المؤسسات، كما في الأنظمة الشيوعية السلطوية مثلا. وهذا وضع جديد على الدولة المصرية لم تعرفه من قبل. ويؤكّد هذا التحول أن الأزمة أصبحت أعمق مما كنا نتخيّل، وأن الانفجار المجتمعي يقترب من لحظاته الأخيرة، فقد جرى تغييب كل البدائل الديمقراطية، ولم يتم السماح بأي ممارساتٍ سياسية، وبالتالي، لم يعد هناك أي هيئة أو تكتل سياسي يستطيع التواصل مع الناس، وفهم مشكلاتهم، ولعب دور الوسيط بينهم وبين الدولة على طريقة الحزب الوطني، أو الانتخابات المحلية، أيام حسني مبارك.
قروضٌ تتراكم نتيجة سياسة الاقتراض التي تم الاعتماد عليها، لذا سيتم مجدّدا العودة إلى فرض مزيد من الجباية على الشعب
إلى ذلك، هناك الفشل على مستوى الملف الاقتصادي، إلى جانب عدم امتلاك تلك المجموعة الحاكمة أي حلول اقتصادية، هناك قروضٌ تتراكم نتيجة سياسة الاقتراض التي تم الاعتماد عليها، لذا سيتم مجدّدا العودة إلى فرض مزيد من الجباية على الشعب، ولن يكون هناك أي قدرة على تقديم أي تقدّم اقتصادي يلمسه المواطن في حياته، فهو تحالفٌ منذ وصوله إلى السلطة يحمل عوامل فنائه في داخله، بتركيبته وطريقته في إدارة الأمور، وعدم القدرة على حل المشكلات، وتراكم الأزمات الداخلية والخارجية. هذا كله كفيل بأن يجعل لدى هذا التحالف القدرة الذاتية على تدمير نفسه. وإذا كانت دعوات 11/11 مرّت من دون أي نتيجة أو تغيير ملموس كان يرجى الوصول إليه، إلا أن كل الدلائل والقرائن الموجودة تفيد بأن المجموعة الحالية في السلطة غير قادرة علي الاستمرار إلى حين الاستحقاق الانتخابي في 2024.