في مقاومة سلطة مقاومة المقاومة
وقع المشروع الوطني الفلسطيني في حفرة عميقة، يبدو أنه يصعب الخروج منها بسهولة. يكاد يتفق كل من كتب في ترسيم حدود هذا المشروع على أن عنصر المقاومة هو الركيزة الأساس فيه، ولكن السؤال الأكثر خطورة وأهمية هو: مقاومة من؟
هناك احتلال مباشر وهناك احتلال ظل. في تجارب الشعوب الأخرى، نذكر على سبيل المثال حقبة الملكية في مصر أيام الملك فاروق. كانت هناك سلطتان على الأرض، سلطة الملك وحكومته وأحزاب البلد، وسلطة عليا، هي سلطة الاحتلال. في الحالة الفلسطينية، الشراسة متشعّبة، فالوطن في حالة تمزّق طولي وعرضي، عامودي وأفقي، والسلطة المفترض أنها "وطنية" تُكمل دور الاحتلال بإخلاصٍ منقطع النظير. بمعنى آخر، لا يوجد على الأرض سوى الاحتلال، مباشرة بجنوده أو بجنود بديلين يحملون أسماء عربية. الصورة أكثر توحّشاً من أي خيال علمي. هذا التوصيف لا يعجب المتورّطين بلعبة رام الله، فهم غدوا جزءاً من المشروع الاحتلالي الذي يسمّونه وطنياً، وأي "عدوان" على هذا المشروع يعتبرونه عدواناً عليهم فيزيائيًا، لأن هذا "النظام" يوفر لهم حياة رغدة إلى حد كبير، وهم بالتالي يدافعون عن مكتسباتٍ شخصيةٍ، لا عن مشروع وطني، فقد أدخلوا العام في سمّ خياط الخاص، وغاب أو كاد بشكل كامل حلم التحرّر الوطني الحقيقي.
في ظل هذا المشهد المخيف، يبرز السؤال عن المقاومة، مقاومة من؟ قبل الجواب، نستدعي صورة أخرى، ربما تكون موازية لشكلٍ ما من أشكال المقاومة، فالسلطة المفترض أنها وطنية، وفي سياق مشروع تحرّر، تمارس المقاومة وبكل شراسة غالباً، ولكنها مقاومة موجّهة ليس إلى العدو، بل إلى الذات، إلى الشعب، إلى المقاومين الحقيقيين، لأي حركة أو نبضة باتجاه العدو. السلطة تقاوم بشراسة أي مقاومة للعدو، فهل يعطي هذا للمقاومة الوطنية الحقّ في مقاومة من يقاومها؟ هل هي دعوةٌ إلى حربٍ أهلية مثلاً؟
الخطاب الرسمي الفلسطيني عن المشروع "الوطني" كما تراه السلطة ليس له إلا دور واحد: ديمومة حياة سلطة مقاومة المقاومة فقط
عملياً، لا توجد شروط موضوعية لقيام حرب أهلية، فليس هناك "فصلٌ" بين معسكري السلطة وشعبها، ولا يوجد ما يكفي من سلاحٍ لدى الشعب لمواجهة سلاح السلطة (ناهيك عن سلاح من يستخدمها من قوات الاحتلال!)، فكيف يقاوم الشعب من يقاوم مقاومته؟ هذا هو سؤال الزاوية في المشروع الوطني الفلسطيني، فمع وجود سلطة رام الله لا يمكن لهذا المشروع أن يتعافى، أو أن يرفع رأسه حتى، ولا بدّ من إزاحة هذه السلطة أو إبطال فاعليتها على الأقل، كي يخرج الشعب من دائرة الاحتلال "الوطني"، ويتمكّن من مقاومة الاحتلال الحقيقي، بالوسائل الشعبية أو بغيرها. وكلما طال أمد حل هذه المعضلة تزيد كلفة التحرير، وربما لن يبقى أرض لتحريرها، خصوصاً مع أجندة حكومة العدو الصهيوني الجديدة برئاسة بينت، صاحب رؤية "تقليص الصراع"، لا حله أو حتى تجميده، وهذه الرؤية عاد بينت وأكّدها في تصريحات خلال زيارته واشنطن أخيراً، حيث قال لصحيفة نيويورك تايمز إنه يعارض إقامة دولة فلسطينية وسيواصل البناء الاستيطاني في الضفة الغربية وإن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني لن يحل في المستقبل القريب، لكنه لن يقدّم خطة لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية ولن يوقع اتفاق سلام مع الفلسطينيين. بمعنى آخر، وكما فصلت مقالة الكاتب في "العربي الجديد" (19/8/2021)، ستعمد حكومة الاحتلال إلى تكريس الاحتلالين، احتلالها الأعلى، و"احتلال" السلطة الأدنى، وستواصل رعاية المشروع الاستيطاني الحثيث، والاستمرار في تنغيص حياة الشعب الفلسطيني من جهة، ومدّ سلطة رام الله بما يكفيها للقيام بمقاومة المقاومة، من جهة أخرى.
أما الخطاب الرسمي الفلسطيني عن المشروع "الوطني" كما تراه السلطة وقصص الشرعية الدولية والاتفاقات والرباعية والتفاوض، وبقية هذه المصطلحات الفارغة من أي رصيد على الأرض، فلا تعني الكيان وليس له إلا دور واحد: ديمومة حياة سلطة مقاومة المقاومة فقط، وفي الأثناء لا بأس من إبقاء سجل التصفيات الجسدية والإعدامات الميدانية لأبناء الشعب الفلسطيني مفتوحاً على مصراعيه، وتوسعة السجون والتوقيف الإداري والقهر على الطرقات، وإطلاق أيدي عصابات المستوطنين.
لم يؤذ كيان العدو شيء في الساحة الدولية كما آذته حركة المقاطعة، ومحاولة حرمانه من "الشرعية" خصوصاً في ما يتعلق بمستوطناته
لم يؤذِ كيان العدو شيء في الساحة الدولية كما آذته حركة المقاطعة، ومحاولة حرمانه من "الشرعية"، خصوصاً في ما يتعلق بمستوطناته على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967. ويمكن أن تكون حملة نزع "الشرعية" عن سلطة رام الله بداية الطريق الحقيقي في فضاء الشتات الفلسطيني للحدّ من توغلها في تخريب المشروع الوطني الفلسطيني، بناء على أنها سلطة منتهية الصلاحية حتى في الجانب القانوني، ناهيك عن تحالفها مع الاحتلال. أما في الداخل الفلسطيني، وحيث إنه يتعذّر القيام بانتفاضة شعبية شاملة ضد الاحتلال الصهيوني وسلطة رام الله، فربما يكون الحل في إشعال انتفاضاتٍ صغيرةٍ في المدن والقرى والبؤر الاستيطانية تقاوم الاحتلال وترهقه وتشاغل قوات السلطة. ويمكن استثمار المواسم والأحداث الفلسطينية الوطنية لحشد الدعم لهذه الانتفاضات، وربما يتطوّر الحال قليلاً للوصول إلى حالات "تمرّد" داخل قوات السلطة مع اشتداد المواجهات والصدامات، الأمر الذي يحتّم على أبناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية الانحياز إلى خيارات شعبهم. أما غزة فستكون، بمقاومتها المسلحة وبخطط المشاغلة وتسخين نقاط التماس، مصدر إلهام ودعم كبير في توسيع دوائر الانتفاضات الصغيرة، كي تنمو جهودها وتتضافر.
خطط حكومة بينت في "تقليص الصراع" هنا ستصاب بالعطب، وسيفرض على الأطراف الدولية التي لم تزل تحابي الاحتلال وترعاه فعلياً أن تعيد النظر في طريقة تعاطيها مع الملف الفلسطيني، ولو من باب النفاق الدولي المعهود (!) وفي النهاية، ستكون هناك عناصر جديدة ربما تحسّن من صحة المشروع الوطني الفلسطيني الذي كادت سلطة مقاومة المقاومة أن تجهز عليه.