في وداع أَنْدْريه ميكيل
غيّب الموتُ، الأسبوع الماضي، المستعرب الفرنسي أَنْدريه ميكيل André Miquel، أحد الوجوه المضيئة في الاستعراب الفرنسي المعاصر، وأكثرها موضوعية في التعاطي مع الثقافة العربية وإشكالاتها. ولد في باريس (1929). أتم دراسته في مدرسة المعلمين العليا، ثم درس اللغة العربية على يد أستاذه ريجيس بلاشير. عمل، بعد تخرّجه، ملحقا ثقافيا في سورية ولبنان وإثيوبيا ومصر، الشيء الذي أسهم في تعميق معرفته بالثقافة العربية وإغنائها. درَّس العربية في معاهد جامعات فرنسية. وفي 1975 شغل منصب أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها الكلاسيكية في معهد "كوليج دو فرانس" حتى 1997. عُيّن مديرا للمكتبة الوطنية في باريس (1984)، وكانت المرّة الأولى التي يُعيَّن فيها مستعرب على رأس هذه المؤسسة العريقة.
أسرَت اللغة العربية أندريه ميكيل منذ كان شابا، فكرّس لها حياته مؤلِّفا وباحثا ومحققا ومترجما. وبلغ شغفه بها حد خوض مغامرة كتابة الشعر بها، فأصدر أعمالا شعرية بالعربية والفرنسية. كما كان واسع الاطلاع على الأدب الجغرافي العربي الذي تعرّف إلى بعض نصوصه، وفي مقدّمتها كتاب ''أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم''، للرحالة والجغرافي محمد المقدسي، الذي ترجمه إلى الفرنسية (1951).
شكّل ميكيل حالة ثقافية فرنسية وغربية فريدة، فكان لمنجزه العلمي والفكري دور مشهود في تصحيح الصورة السلبية السائدة عن الاستشراق، لا باعتباره خلفية معرفية وثقافية للاستعمار، وإنما وسيلةً تتيح فهما أكثر إنصافا لثقافة الآخر وحضارته. وقد مكّنه تحليه بالاستقلالية والموضوعية العلمية وعدمُ انجراره خلف القراءات الاستشراقية الأيديولوجية من امتلاك رؤية متوازنة لقضايا التراث العربي.
لم يتردّد ميكيل في انتقاد هذه القراءات التي وظفت الطفرة المنهجية، التي شهدتها العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ نهاية القرن التاسع عشر، من أجل إشاعة نظرة دونيةٍ كولونياليةٍ للثقافة العربية، محكومةٍ بحساباتٍ سياسيةٍ بحتة. ولذلك ظل منشغلا، حتى رحيله، بضرورة تجاوز ما سماه، في أحد حواراته، ''استشراق الواجهة'' نحو ''استشراق تنويري'' يستند إلى المعرفة العلمية في إعادة بناء جسور التواصل بين الشرق والغرب. بالتوازي مع ذلك، لم يتردّد في إبداء انحيازه الواعي والنقدي للقضايا العربية العادلة، وهو ما دفع ثمنه في العقود الثلاثة الأخيرة تجاهلا وإقصاءً وقف وراءهما النفوذ المتنامي للوبي الصهيوني واليمين المتطرّف في عدد من المؤسسات الإعلامية والثقافية والأكاديمية الفرنسية. هذا من دون إغفال السياق العام الذي حال دون انتشار واسع لأفكاره وآرائه. وهو السياق الذي تجلى، بالأساس، في انحسار الأيديولوجيات والمذاهب والحركات الفكرية الكبرى، وتراجعِ تأثير المثقفين في النقاش العمومي في فرنسا، وصعودِ النزعات الأصولية بمختلف أطيافها في المنطقة العربية، وافتقاد صنّاع القرار في فرنسا، والغرب عموما، الوعي بأهمية الحوار والتعايش في فتح صفحة جديدة في العلاقة مع الشرق.
ترك أندريه ميكيل إرثا فكريا وعلميا زاخرا شمل مجالات كثيرة، أبرزها كتابه ''الإسلام وحضارته'' (1968)، ومصنفه الضخم ''الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي حتى منتصف القرن 11 الميلادي'' الذي نشر في أربعة مجلدات بين 1973 و1988، وكتاب ''الأدب العربي'' (1981)، وكتاب ''العرب والإسلام وأوروبا'' (1991) الذي أصدره باشتراك مع دومينيك شوفالْيِي. وفي سياق ولعه بالتراث الشعري العربي القديم، أصدر كتاب ''المجنون وليلى، جنون الحب''، وهي دراسة في شعر قيس بن الملوّح، أنجزها مع بيرسي كيمب (1984). ومن ترجماته عن العربية، يبرز كتاب ابن المُقفَّع ''كليلة ودِمنة'' (1957). وتبقى ترجمته ''ألف ليلة وليلة''، التي أنجزها مع جمال الدين بن الشيخ، الأكثر أهمية، ليس فقط بالنظر إلى المكانة المعلومة للكتاب داخل الثقافة العربية، وإنما أيضا للآفاق التي فتحتها هذه الترجمة أمام دارسي التراث العربي في فرنسا، والغرب عموما، على درب تصحيح التمثلات السلبية عن الآخر، وذلك بالاقتراب من ثقافته ومحاولة فهمها.