في يوم المرأة... التغيير من قلب المجتمع
أنشأت سيدة مصرية، قبل عدة سنوات، صفحة على "فيسبوك" تحت اسم "I make this"، كانت خاصة لترويج منتجٍ من منتجات الصناعات اليدوية المصرية، من تنفيذ صاحبة الصفحة وتصميمها. ولم تمض أشهر حتى تحوّلت الصفحة إلى تجمّع لسيدات وفتيات مصريات ينتجن ويصمّمن أشياء مختلفة ومتنوعة: الإكسسوارات والحلي بما فيها الذهب والفضة، الملابس والشنط والأحذية، الرسم، النحت، المفروشات وإكسسوارات المنزل والطعام بمختلف أنواعه... أفكار وابتكارات متنوّعة ومختلفة ومتعدّدة، تعرضها سيدات وشابات مصريات من مختلف الأعمار والمناطق والطبقات الاجتماعية، حتى تحوّلت الصفحة إلى ماركت افتراضي، يمكن الدخول اليه وانتقاء سلعة ما ثم طلبها لتصل إلى المستهلك في أسرع وقت وأفضل نوعية تغليف وبأسعار معتدلة تتناسب مع دخول الطبقة المتوسطة المصرية.
وقد تشكّلت منذ سنتين تقريبا للصفحة هيئة شبه مؤسّساتية، تعمل على مساعدة النساء غير القادرات على الوصول إلى المستهلك، ثم انتقل العرض من العالم الافتراضي ليصبح أمام الناس عبر إقامة بازارات متواترة في أماكن مختلفة من القاهرة، يجرى الإعلان عنها عبر الصفحة، وتستقبل زوّارا كثيرين. وبحسب بعض المشاركات في البازارات، إقبال المصريين على الشراء كبير جدا، وقد ساعدت فكرة العرض المباشر نساءً كثيرات منتجات على بيع منتوجاتهن وبناء علاقة ودية مع المشترين آو المستهلكين أو جمهور البازارات المتنوّع.
ومن التفاصيل الملفتة لي في هذا الأمر دخول نساء وفتيات سوريات مقيمات في مصر في هذا المشروع الجميل، وعرض ما تنتجه مواهبهن في مجالات كثيرة من الفنون (وهو أمر مهم، فسمعة السوريات مرتبطة بإبداعهن في صنع الطعام فقط).
لاحظت، في سنواتي العشر الماضية في مصر، حضورا كبيرا للمرأة المصرية في كل المجالات، وهو ما يربك قليلا في فهم تركيبة المجتمع المصري، الذي يبدو أن الذكورة تتفوق فيه وتتسيّد بنسبة كبيرة، سواء في القوانين وفي العادات والتقاليد وفي الأحكام وفي التعامل اليومي وفي التربية. كل ما يتعلق بالمجتمع المصري يجعلك تظنّ أن لا وجود للمرأة المصرية أمام هذا الطغيان الذكوري السلطوي، الذي يصل إلى حد الاعتداء الجنسي الجماعي علنا على فتيات في الشارع من دون تدخّل أحد. حدث هذا مرّات عدة، وتحدّثت عنه الصحافة المصرية والناشطات النسويات عبر وسائل التواصل، مطالباتٍ بتطبيق القوانين الموضوعة الرادعة على المعتدين، بدلا من ترك الأمر لمزاج المجتمع وهواه.
لكن مصر دولة حقيقية، لا تشبه أية دولة عربية أخرى، لا أقصد من حيث حضور مؤسّسات الدولة فيها، بل من حيث حراك المجتمع الدائم. والحراك والنشاط النسوي على وجه التحديد، وهو داخلي حدث ويحدث من قلب المجتمع، من قاعِه فعلا، لم يأت بباراشوت عبر منظمات مموّلة هدفها إقامة ورشات عمل تحت عنوان تمكين المرأة (وجدت هذه المنظمات في مصر لكن تأثيرها لم يكن قويا)، وإنما عبر مبادراتٍ فرديةٍ وجمعية مجتمعية عملت على أرض الواقع على تمكين المرأة وإظهار مواهبها وتحويلها إلى مبدعة، يمكنها الاعتماد على نفسها مادّيا ونفسيا، في طريقها نحو الاستقلالية والتمكّن من أخذ دورها في المجتمع. واللافت في مصر أيضا أن السينما والدراما المصرية كانتا، في مرحلة من مراحل تألقها، داعمة هذا الحراك، وانتبهت إلى دورها في التغيير، حين طرحت قضايا مجتمعية وقانونية مهمة، وكان لها تأثير على تغيير بعض القوانين المتعلقة بحقوق النساء مصر.
وبالعودة إلى تجمّع "I make this"، كان البازار الذي أقامه التجمع يوم 8 مارس/ آذار الحالي، بمناسبة يوم المرأة العالمي، ملفتا من حيث عدد المشاركات فيه واللاتي عرضن منتجاتهن وإبداعهن، حيث تجاوز عددهن المئات، إلى درجة أن القسم الواحد كانت تستخدمه أكثر من عارضة لضيق مساحة المكان، وهذا مدهشٌ وخلاق: أن تتساند النساء معا، في مجالاتٍ قد تكون متشابهة، بعيدا عن الغيرة والاستئثار والأنانية في التعاطي مع مشروع ملهم كهذا.
يثبت الزمن أن لا حدود لقدرات المرأة ولا لصلابتها الداخلية ولا لقدرتها على التطور والابتكار وخلق الحياة من جديد. يكفي هنا أن نتذكّر أن النساء الألمانيات هن اللواتي أعدن بناء بلدهن بعد الحرب العالمية الثانية، التي أخذت في طريقها ملايين من الشباب والرجال الألمان. لم ييأسن من هذا الوضع، ولم يُصبن بمظلومية الضحايا، بل واصلن حياتهن، وحوّلن ألمانيا إلى البلد الذي هي عليه اليوم.