قادرون على الطيران كالصقور ويزحفون كالدود
هذه هي المرّة الثالثة التي يشدو فيها رئيس بلدية إسطنبول الملهم، أكرم إمام أوغلو، بالإنكليزية، على طريقة حنفي في مسرحية "المتزوجون"؛ مرّة مع السفير الأميركي، وأخرى مع السفير البريطاني، وهذ المرّة في مولد سيدي ميونخ، مع أنّه لا يُحسن منها سوى كلمتين. صار محبوب الأوروبيين ومرشّحهم للفوز برئاسة تركيا، نكتة على التويتر التركي، حفظ الرجل كلمته غيباً، وكتبها على ورقة، فثقب آذاننا وهو يدور مثل الخنفساء بالطاسة ويكرّر بركاكة كلمة "جغرافي" مع أنّه متخرّج من جامعة أميركية في قبرص ذات العواء!
وكان قبل مدّة قد باع الملح المدّخر في مستودعات إسطنبول، وعندما سُدَّت شوارعها بالثلوج، اشترى ملحاً مغشوشاً بالرمل، فلم ينفع، لأنَّ الملح يرشُّ على الأرض قبل العاصفة، بل إنَّ رئيس البلدية الذي يعادل ملكه نصف تركيا كما يشاع في الأدبيات السياسية، نطق كلمة ألمانية للسفير البريطاني الضيف، مغشوشة بالرمل والحصى، كي يقول له: انظر، أنا البلبل الشادي، على طريقة النملة التي خرجت مع الفيل في مشوار عاطفي.
المرء عند العرب بأصغريه، لسانه وقلبه، صاغه زهير شعراً فقال: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده... وللعرب مصنّفات كثيرة عن البلاغة التي أنقذت صاحبها من الموت نظماً أو نثراً، أذكر منها الحجاج، وهو يقتصُّ من أسرى تمرّدوا عليه، فلمّا قدّموا إليه رجلاً لتضرب عنقه قال: والله لئن كنا أسأنا في الذنب، فما أحسنت في العفو. فقال الحجاج: أفٍّ لهذه الجيف، أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا الكلام... وأمسك عن القتل.
ذكّرنا أكرم إمام أوغلو بالرئيس المصري المصقع، وهو يقابل قناة أميركية، فقال مثل جندي يقدّم نفسه للضابط في الرتل: دعوني أقدّم نفسي، أنا فلان، مواطن مصري (يا سلام على التواضع)، أعمل من أجل الحرية والديمقراطية (وصندوق الفكّة)، ثم انتهى الوقود الإنكليزي المحفوظ في الدابو (أصلها من ثمرة الدباء) فحوّل إلى طريق صلاح سالم الزراعي.
هؤلاء زعماء يقودون دولاً كبرى، ويقابلون آلاف الناس، ولهم مستشارون وأولياء وأتباع، أليس فيهم من ينصحهم بأن ينطقوا بلغتهم، وأنّ ذلك أزكى لهم ولشعوبهم. لا يخلو فيلم مصري كوميدي من نمرة الكلام الفرنجي، وأحياناً العربي الفصيح، ثم رأينا النمرة في نشرات الأخبار.
كان العرب يجبّرون الأسماء الأعجمية حتى تستوي على ألسنتهم، فينطقون بيتر بطرس، وإليزابيت أليصابات، وهو اسم عبري، أي عربي الأصل، ويعني المعتكفة في بيت الله، وإل، من أسماء الله، وبيت معروفة، وفظائع المترجم الذي عاش في أميركا ثماني سنوات أدهى وأنكى، وهو يقول للطفل: شيك هاند يو. ليت الرجل تحدّث بالمصرية كما يتحدّث بها سائق التوك توك الشهير، فللمصرية بلاغة وبيان.
وكان إدوارد سعيد يغشاه الغضب وهو يسمع ياسر عرفات يتحدث بإنكليزية صف تاسع. ولم يكن الأسد الأب ينطق سوى بالفصحى، لم يُسمع منه كلام باللهجة الشامية أو العلوية، فلو نطق بلهجته العلوية، لكشف عن ساقٍ وجزمة، ولذلك برزت مترجمته بثينة شعبان حتى سادت وبلغت رتبة الشخص الثاني في سورية. وقد أكل قيس سعيّد بعقول عرب وتوانسة كثيرين زلابية، وهو يسحرهم بالعربية، فدحر خصمه القروي، (إنّ من البيان لسحرا) وأضيف: وشعوذة.
يُعذر الرؤساء العرب في رطانتهم ولكنتهم، فهم يتكلّمون بلغة أعجمية، لكن لا عذر لهم في الكلام بلغةٍ يجهلونها فيتزحلقون وتتكسر أضلاعهم، وكان القذافي في حوار شهير له يقول جملة بالإنكليزية ثم يصاب بالإعياء، فيلتفت إلى المترجم الذي لا يظهر في الصورة طالبًا النجدة. ولم أعرف لصدّام سوى جملة إنكليزية داعب بها طفلاً أميركياً استرهنه وأهله، فأرسل إليه الغرب القس جيسي جاكسون ومحمد على كلاي، فحرّروهم وقصفوا العراق فدكّوها دكاً، وعجبت من صدّام عندما ظهر بقبعة الكاوبوي: هذه رطانة في الزيّ.
قال السيد جوغرافي للسفير البريطاني: ابني يدرس عندكم .. وقال كلمة بالألمانية، ظنّاً منه أنّ "الفرنجي برنجي"، وضحك ساتراً سوأته بها، فضحكوا به.
"ولم يبقَ إلّا صورة الدم واللحمِ".
أفٍّ لهذه الجيف.