"قبل النكسة بيوم" .. الذكاء والمتعة والكآبة
صحيحٌ أن التاريخ لا يكتبُه صنّاع الأدب، وصحيحٌ أن النصوص الإبداعية إذا حضر فيها تاريخٌ ما، لا يجوز أن تكون مرجعا له فيُؤخَذ منها. ولكنه صحيحٌ أن في وسع الأدب العالي السويّة أن يجيب عن أسئلةٍ في التاريخ، وأن يقدّم أطروحته. وإذ تعبُر، في هذه الأيام، ذكرى هزيمة حزيران، فإن السؤال عن أسبابها (الهزيمة وليست الذكرى) لا يوفّر الإجابة عنه المؤرّخون والدارسون وحدهم، وإنما يستطيع، أيضا، كتّاب الأدب، ممن يحوزون المعرفة والخيال، وينتجون الجمال والمتعة، أن يجيبوا أيضا. .. هذا ما يصنعه بكفاءةٍ باذخةٍ المصري إيمان يحيى، في روايته الثالثة "قبل النكسة بيوم" (دار الشروق، القاهرة، 2022). وفي العنوان شيءٌ من المراوغة، إذ لا تتواتر وقائع الرواية في يومٍ واحدٍ قبل النكسة في يونيو/ حزيران 1967، وإنما تتوالى في سنواتٍ وشهورٍ وأسابيع وأيامٍ قبلها، وتحضُر متبوعةً، أو مضفّرةً، بوقائع في غضون مظاهرات ثورة يناير في 2011. والمراوغة من أدوات كاتب هذا النص، الشائق حقّا، عندما يُوازي بين المتخيّل والحقيقي، بين شخصيات الرواية المبتكَرين وشخصياتٍ معروفة، بين الوثيقة الصامتة والحكاية الضاجّة.
إجابة إيمان يحيى في روايته، المطبوعة بنباهةٍ في بنائها ومؤالفاتِها ومناوراتِها السردية الحاذقة، أن ما أحدث النكسةَ القمعُ الشديد، وإهانةُ عقل المواطن المصري بالشعاراتية، واختزالُه وعاءً يتلقّى أفكار السلطة التي يُترَك لأجهزتها البوليسية والمخابراتية إهدارُ إنسانية المواطن المصري واستباحتها، ولو كان مثقفا مواليا. أتقنت الرواية الإيحاء العالي بهذه المُرسلة، سيّما بتشخيص أجواء الكآبة والقلق والحيرة، في أجواء الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي (ومعهد تخريج القادة!)، ومنظمة الشباب، وغيرها من تشكيلاتٍ صنعتْها السلطة الناصرية بغرض تأهيل كوادر مثقّفة لتدافع عن مكتسبات ثورة يوليو ومقولاتها، مع إلغاء فردانية هؤلاء الشباب، بالتوازي مع شكوكٍ في ولائهم تسوّغ رمي كثيرين منهم في المعتقلات وتعذيبهم، ليفترسهم الإحباط وعدم اليقين. وبالتوازي، يُشاهَد مجنّدون يساقون بالجلابيب إلى المعركة. وفي الأثناء، ثمّة نقصانٌ في الثقة بين أركان السلطة، ونقصانُ السلع وفساد موظفي الجمعيات التي تُشاهد طوابير المصريين أمامها. وثمّة توطّنٌ مقيمٌ للطبقيّة في المجتمع، لم تزحزحها ثورة يوليو، وثمّة ظلالٌ لحربٍ مصريةٍ في اليمن، من بالغ الدلالة في الرواية أن تأتي على مشاركة مصريٍّ نوبيٍّ فيها.
تتوالى تفاصيل هذه اللوحة الكئيبة، مع تنويعاتٍ تحيل إلى مزاجٍ مصريٍّ عام في تلك الغضون، وإلى تقاطعاتٍ مع أحداث اجتماعيةٍ وفنيةِ (عرض فيلم عبد الحليم حافظ "معبودة الجماهير" مثلا) تنطق بإيقاعات الستينيات ومقدّمات النكسة، تتوالى في فصول الرواية وفواصلها (أخبار ومقالات من صحف مثلا) في مشاهد يجري الحكي عنها، وتتآلف بذكاءٍ ظاهر، عندما يُسند إلى ثلاثة أشخاصٍ مركزيين في الرواية أن يتكّلم كلٌّ منهم بأناه، ويُفضون بما فيهم من أسئلةٍ وقلقٍ وخوفٍ في شبابهم قبيل النكسة وفي زمن مظاهرات يناير. يتناوب الزمن في حديثهم، وهم يسترسلون في استدعاء وقائع من الذاكرة، فيحضُر ذلك الزمن ثقيلا، يعكس هزيمة أرواحهم، ووطأةُ الخيبات البعيدة فيه باقيةٌ في النفوس، على غير الحياة التي تنفتح عليها لحظة يناير في ميدان التحرير، في هتافات المتظاهرين. وكأن مرسلةً هنا، أن غياب روح يناير، المنتفضة الملأى بمطلب الحرية، في ستينيات التنظيم الطليعي وسُكنى أسرة العشرينية كريمة (أحد الشخصيات الثلاث) فوق سطح بناية، من أسباب النكسة التي لا تحضُر في حديث الستينية كريمة مع حفيدها، ومع الصحافي عبد المعطي الذي تصادفه في الميدان، وهو أحد الشخصيات الثلاث، ولا مع زميله في سجن القلعة، الصيرفي الذي تبرُق في ذهنه، وهو الستيني، هنا فكرة طلب الزواج من كريمة، فتوافق، وهي النوبية التي تعبت في حياتها، ابنة حارس عمارة، تزوّجت ابن عمها الذي قضى في حرب تحرير الكويت. وكان قد مات حبُّها حمزة، أحد الشخصيات الثلاثة في الرواية، الذي حطّم المعتقل روحَه بعد سنواته مواليا للرئيس عبد الناصر واشتراكية ثورة يوليو. والآن، يتابع في نيويورك ثورة يناير، ويُصادف صورة كريمة بين جموع المتظاهرين على شاشة التلفزيون، فتستيقظ فيه وقائع ما قبل أربعين عاما، ويحدّث خبراء أميركيين ورجال كونغرس عن ثورةٍ راهنةٍ في مصر.
ليست "قبل النكسة بيوم" حواديت وحكاوي، وإنما سردٌ يتهادى ويتداعى بفائضٍ من المتعة والجاذبية والذكاء، إنْ جاءت كثيرا على كآبة ما قبل النكسة، وقد ضجّت ببهجة لحظة يناير .. شكرا إيمان يحيى.