05 نوفمبر 2024
قبل حصار بغداد الثاني
تتنهد بغداد طويلاً، وهي تجد نفسها منزويةً بعيدة عن محيطها العربي، فهي، ومنذ احتلالها عام 2003، تعاني غربةً قاسية، بعد أن عزلها المحتل أولا، ثم إيران التي رأت في احتلال العراق فرصة ذهبية للتغلغل والنفوذ وإبعاده عن عالمه العربي.
قبل أيام، كسر وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، غربة بغداد وحصارها الطويل، حينما زار عاصمة الرشيد فجأة، معلنا عن استعداد بلاده لمد يد العون للعراق، كل العراق.
وعلى الرغم من قصر الزيارة، إلا أنها كانت رسالة لافتة إلى كل من يهمه الأمر، خصوصا أنها تأتي في ظل تزايد التصريحات الأميركية المنددة بإيران، وتدخلها الفج في العراق، كما أنها تأتي، والعراق على أعتاب استعادة السيطرة على مدينة الموصل، الأمر الذي يستدعي معالجةً لا تقتصر على العراق وحده، وإنما على دول الإقليم والقوى الدولية، لمنع عودة تنظيم الدولة بوجه آخر.
عاشت بغداد حصارا عربيا محكما يوم أن أخذها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، بعيدا عن عالمها العربي، ورمى بها في الحضن الإيراني، باعدا ومستبعدا أي دورٍ عربي، معتمدا على سياساتٍ طائفيةٍ مقيتة، وقاطعا أي وصل عربي مع بغداد، بعد أن تبنى سياسات إيران، واصطف إلى جانبها، حتى بشأن قرارات لجامعة الدول العربية.
أسهم الجدار الذي بناه المالكي بين بغداد ومحيطها العربي كثيرا في أن تتوغل إيران عميقا وترسم سياسات العراق الخارجية كما تشاء، ناهيك عن بناء منظومة جيشٍ طائفيٍّ، يعتمد بشكل كبير على فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، وهو ما عرف باسم الحشد الشعبي الذي جاء تشكيله عقب احتلال تنظيم الدولة الإسلامية الموصل عام 2014، وعلى الرغم من أنه جاء بناء على فتوى المرجعية الشيعية، إلا أن من الواضح أنه كان بلمسات وأصابع إيرانية واضحة، وهو ما اعترف به قادة من إيران والحرس الثوري.
ثمانية أعوام قضاها المالكي في سدة الحكم، بتفرد ودكتاتورية واضحة، مكّنت لإيران، وحولت العراق حديقة خلفية لطهران، حتى تعالت تصريحات قادة طهران أن بغداد عادت عاصمة للإمبراطورية الفارسية.
هناك اليوم أجواء مناسبة لإعادة بغداد والعودة إليها، عربيا، تتمثل أولا بالرغبة الأميركية البادية عبر تصريحات الرئيس دونالد ترامب، بإعادة إيران إلى حجمها الحقيقي وإبعادها عن العراق، وهي رغبة تأتي فيما يمكن تسميته إلقاء أميركا كماشة النار، إيران، التي استخدمتها سنوات خلت للقضاء على أي مقاومة عراقية للاحتلال الأميركي قبل الانسحاب 2011، وأيضا لإعادة رسم سياسات المنطقة بطريقةٍ تتوافق مع هوى أميركا من خلال الضغط على حلفاء أميركا في المنطقة بواسطة كماشة النار، إيران.
الأمر الآخر الذي يجعل الأجواء مناسبة لعودة بغداد إلى حضنها العربي الشعور العربي، والخليجي خصوصا، بضرورة استغلال الرغبة الأميركية التي تحدثنا عنها سلفا، ومحاولة احتواء العراق، عبر تقديم الدعم لحكومته، شريطة أن تتعهد بالابتعاد عن إيران.
بالتأكيد، لا تملك بغداد، بحكومتها الضعيفة، قرار البقاء ضمن دائرة النفوذ الإيراني من عدمه، فإيران اليوم تملك أوراق لعب عديدة داخل الساحة العراقية، بطريقة تقيد يد أي حكومة، وتمنعها من الحركة، كما أنها اليوم الحاكم الفعلي للعراق، وما الموجودون في المنطقة الخضراء، من سلطة تشريعية أو تنفيذية أو حتى قضائية، إلا بيادق بيد إيران، لا يملكون من أمرهم شيئا.
ولكن المهم هو وجود رغبة أميركية فعلية بطرد إيران من العراق، وإن كان هذا الأمر إلى الآن بلا إجراء فعلي، فإذا صدقت أميركا، لمصالحها طبعا، بأنها ترغب بتقليص النفوذ الإيراني في العراق، فأعتقد أن أميركا تملك أوراق لعب كثيرة.
ولعل أولى تلك الأوراق، القوة الأميركية التي بدأت تتضخم في العراق بشكل لافت، حتى وصلت إلى أكثر من 12 ألف جندي أميركي، بحسب إحصائية نشرتها صحيفة ديلي بيست الأميركية. الورقة الثانية، الرغبة العراقية المتعاظمة، بغض النظر عن خلفيتها الطائفية، بإبعاد العراق عن إيران، ولعل متابعة مظاهرات العراقيين في المناطق الجنوبية، أو التي قادها أنصار مقتدى الصدر في بغداد، والمنددة بإيران، دليل واضح على تلك الرغبة المتعاظمة لدى العراقيين.
الورقة الثالثة التي ربما تلعب بها أميركا، هي المؤسسة العسكرية العراقية، والتي سعت الولايات المتحدة، وخصوصا قبيل انطلاق معركة الموصل، لتعزيزها وإبعادها عن نفوذ إيران، وربما هو ما تمثل في أن تكون معركة الموصل الأقل انتهاكا لحقوق الإنسان.
وتبقى ورقة العرب السنة والأكراد مهمة، إذا ما رغبت أميركا فعليا بإبعاد إيران من العراق، فكلا الطرفين، السنة والأكراد، يعانيان ضغطا رهيبا من سياسات إيران في العراق، وبالتالي يمكن استثمار ذلك من خلال الأذرع السياسية، وحتى الشعبية.
أما العامل الأهم في هذه المعادلة فهو تنظيم الدولة الإسلامية، فكل الدراسات والتقارير تؤكد أنه لن يهزم بسهولة، حتى لو خرج آخر مقاتليه من الموصل، وهو أمر تدركه واشنطن جيدا، وتعرف أن سياسات إيران في العراق كانت عاملا مهما في بروز هذا التنظيمات، وبالتالي، فإن ضمان عدم استعادة التنظيم دوره، وجلب مقاتلين جدد، يتطلب إيجاد معالجةٍ أخرى غير المعالجة العسكرية التي دأبت عليها أميركا خلال السنوات الماضية.
الحذر كل الحذر أن تفشل هذه الجهود، ويأتي من يحاصر بغداد ثانية، ويبعدها عن عالمها العربي، كما فعل نوري المالكي في المرة الأولى. عندها يمكن أن نتحدث عن عواصم أخرى، تلتحف بلحاف الإيرانيين، بعد بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
قبل أيام، كسر وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، غربة بغداد وحصارها الطويل، حينما زار عاصمة الرشيد فجأة، معلنا عن استعداد بلاده لمد يد العون للعراق، كل العراق.
وعلى الرغم من قصر الزيارة، إلا أنها كانت رسالة لافتة إلى كل من يهمه الأمر، خصوصا أنها تأتي في ظل تزايد التصريحات الأميركية المنددة بإيران، وتدخلها الفج في العراق، كما أنها تأتي، والعراق على أعتاب استعادة السيطرة على مدينة الموصل، الأمر الذي يستدعي معالجةً لا تقتصر على العراق وحده، وإنما على دول الإقليم والقوى الدولية، لمنع عودة تنظيم الدولة بوجه آخر.
عاشت بغداد حصارا عربيا محكما يوم أن أخذها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، بعيدا عن عالمها العربي، ورمى بها في الحضن الإيراني، باعدا ومستبعدا أي دورٍ عربي، معتمدا على سياساتٍ طائفيةٍ مقيتة، وقاطعا أي وصل عربي مع بغداد، بعد أن تبنى سياسات إيران، واصطف إلى جانبها، حتى بشأن قرارات لجامعة الدول العربية.
أسهم الجدار الذي بناه المالكي بين بغداد ومحيطها العربي كثيرا في أن تتوغل إيران عميقا وترسم سياسات العراق الخارجية كما تشاء، ناهيك عن بناء منظومة جيشٍ طائفيٍّ، يعتمد بشكل كبير على فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، وهو ما عرف باسم الحشد الشعبي الذي جاء تشكيله عقب احتلال تنظيم الدولة الإسلامية الموصل عام 2014، وعلى الرغم من أنه جاء بناء على فتوى المرجعية الشيعية، إلا أن من الواضح أنه كان بلمسات وأصابع إيرانية واضحة، وهو ما اعترف به قادة من إيران والحرس الثوري.
ثمانية أعوام قضاها المالكي في سدة الحكم، بتفرد ودكتاتورية واضحة، مكّنت لإيران، وحولت العراق حديقة خلفية لطهران، حتى تعالت تصريحات قادة طهران أن بغداد عادت عاصمة للإمبراطورية الفارسية.
هناك اليوم أجواء مناسبة لإعادة بغداد والعودة إليها، عربيا، تتمثل أولا بالرغبة الأميركية البادية عبر تصريحات الرئيس دونالد ترامب، بإعادة إيران إلى حجمها الحقيقي وإبعادها عن العراق، وهي رغبة تأتي فيما يمكن تسميته إلقاء أميركا كماشة النار، إيران، التي استخدمتها سنوات خلت للقضاء على أي مقاومة عراقية للاحتلال الأميركي قبل الانسحاب 2011، وأيضا لإعادة رسم سياسات المنطقة بطريقةٍ تتوافق مع هوى أميركا من خلال الضغط على حلفاء أميركا في المنطقة بواسطة كماشة النار، إيران.
الأمر الآخر الذي يجعل الأجواء مناسبة لعودة بغداد إلى حضنها العربي الشعور العربي، والخليجي خصوصا، بضرورة استغلال الرغبة الأميركية التي تحدثنا عنها سلفا، ومحاولة احتواء العراق، عبر تقديم الدعم لحكومته، شريطة أن تتعهد بالابتعاد عن إيران.
بالتأكيد، لا تملك بغداد، بحكومتها الضعيفة، قرار البقاء ضمن دائرة النفوذ الإيراني من عدمه، فإيران اليوم تملك أوراق لعب عديدة داخل الساحة العراقية، بطريقة تقيد يد أي حكومة، وتمنعها من الحركة، كما أنها اليوم الحاكم الفعلي للعراق، وما الموجودون في المنطقة الخضراء، من سلطة تشريعية أو تنفيذية أو حتى قضائية، إلا بيادق بيد إيران، لا يملكون من أمرهم شيئا.
ولكن المهم هو وجود رغبة أميركية فعلية بطرد إيران من العراق، وإن كان هذا الأمر إلى الآن بلا إجراء فعلي، فإذا صدقت أميركا، لمصالحها طبعا، بأنها ترغب بتقليص النفوذ الإيراني في العراق، فأعتقد أن أميركا تملك أوراق لعب كثيرة.
ولعل أولى تلك الأوراق، القوة الأميركية التي بدأت تتضخم في العراق بشكل لافت، حتى وصلت إلى أكثر من 12 ألف جندي أميركي، بحسب إحصائية نشرتها صحيفة ديلي بيست الأميركية. الورقة الثانية، الرغبة العراقية المتعاظمة، بغض النظر عن خلفيتها الطائفية، بإبعاد العراق عن إيران، ولعل متابعة مظاهرات العراقيين في المناطق الجنوبية، أو التي قادها أنصار مقتدى الصدر في بغداد، والمنددة بإيران، دليل واضح على تلك الرغبة المتعاظمة لدى العراقيين.
الورقة الثالثة التي ربما تلعب بها أميركا، هي المؤسسة العسكرية العراقية، والتي سعت الولايات المتحدة، وخصوصا قبيل انطلاق معركة الموصل، لتعزيزها وإبعادها عن نفوذ إيران، وربما هو ما تمثل في أن تكون معركة الموصل الأقل انتهاكا لحقوق الإنسان.
وتبقى ورقة العرب السنة والأكراد مهمة، إذا ما رغبت أميركا فعليا بإبعاد إيران من العراق، فكلا الطرفين، السنة والأكراد، يعانيان ضغطا رهيبا من سياسات إيران في العراق، وبالتالي يمكن استثمار ذلك من خلال الأذرع السياسية، وحتى الشعبية.
أما العامل الأهم في هذه المعادلة فهو تنظيم الدولة الإسلامية، فكل الدراسات والتقارير تؤكد أنه لن يهزم بسهولة، حتى لو خرج آخر مقاتليه من الموصل، وهو أمر تدركه واشنطن جيدا، وتعرف أن سياسات إيران في العراق كانت عاملا مهما في بروز هذا التنظيمات، وبالتالي، فإن ضمان عدم استعادة التنظيم دوره، وجلب مقاتلين جدد، يتطلب إيجاد معالجةٍ أخرى غير المعالجة العسكرية التي دأبت عليها أميركا خلال السنوات الماضية.
الحذر كل الحذر أن تفشل هذه الجهود، ويأتي من يحاصر بغداد ثانية، ويبعدها عن عالمها العربي، كما فعل نوري المالكي في المرة الأولى. عندها يمكن أن نتحدث عن عواصم أخرى، تلتحف بلحاف الإيرانيين، بعد بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.