قبل كأس العرب وبعدها
لمّا بلغ الرئيس الأميركي باراك أوباما في ديسمبر/ كانون الأول 2010 خبر استضافة قطر كأس العالم 2022، انفعل وقال للصحافيين إن قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) هذا خاطئ .. كان بالغ الشذوذ من رئيس الولايات المتحدّة أن يصدُر عنه هذا الكلام، وإن استثقل أن تخسَر بلادُه في تصويت أعضاء المكتب التنفيذي لـ"فيفا" في جولةٍ رابعةٍ تنظيم التظاهرة العالمية، فقد صوّت لها ثمانية فيما منح 14 أصواتهم لقطر، بعد خروج اليابان وكوريا الجنوبية وسيدني في تصويت الجولات الثلاث. ولكن الرئيس الكيّس بادر، تاليا، إلى تهئنة أمير قطر (السابق) الشيخ حمد بن خليفة، وقال، مازحا، بعد محادثاتٍ بينهما إنه سيكون رئيسا سابقا للولايات المتحدة عندما تنتظم البطولة، ويتمنّى أن يكون قادرا على الاستمتاع بمقاعد جيدة إذا سافر إلى الدوحة للفرجة، فعقّب الشيخ حمد إنه لن ينسى إرسال تذاكر إليه ليحضر كأس العالم .. أما رئيس الشرف للجنة التنظيمية الأميركية الخاصة باستضافة بلاده البطولة، بيل كلينتون، فقد نشرت صحيفة تلغراف البريطانية إنه صعد، بعد إشهار نتيجة التصويت، إلى جناحه في الفندق في زيوريخ، وأغلق بابَه بغضب، وأمسك بمزهريةٍ كانت على الطاولة، وقذفها على مرآةٍ معلقةٍ على الحائط أمامه، محطّما زجاجَها، ومُفرغا حنقا تملّكه من إخفاق أميركا أمام قطر.
يجري التذكير بالوقائع الأميركية أعلاه، بمناسبة الحديث المتجدّد منذ أيام عن أهلية قطر في استضافة أكبر تظاهرةٍ رياضيةٍ كونية، بعد نجاحها الباهر في تنظيم كأس العرب، في أجواء بهيجةٍ وآمنةٍ ومنافساتٍ بروحٍ رياضيةٍ عاليةٍ بين 16 منتخبا عربيا أدّوا 32 مباراة، وتفوّقٍ ملحوظٍ في الإدارة واللوجستيك، مع إقبالٍ جماهيريٍّ واسع، ربما غير مسبوقٍ عربيا، لمّا تقاطر مئات الآلاف على الملاعب الستة التي اكتملت جاهزيتها الأنيقة، مع إتمام المرافق الموازية، وتهيئة أفضل أسباب الراحة المثالية للتظاهرة المُرتقب أن تكون الأولى في بلد عربي. وفي البال أن المغرب سبق أن نافس على استضافة كأس العالم خمس مرّات، ولم يُحالفه التوفيق. أما مصر فأحرزت صفرا في تصويت أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي لكرة القدم، لمّا نافست في العام 2004 على استضافة بطولة 2010. وهنا، يصير إنجازا عربيا ثقيل القيمة حققته دولة قطر لمّا أمكن لملفّها المنافس قبل 12 عاما أن يزيح ملفات دولٍ ذات إمكاناتٍ وقدراتٍ رياضيةٍ وبنياتٍ تحتيةٍ عالية الكفاءة، ويكفي أن منها الولايات المتحدة التي استفظع رئيسٌ سابقٌ لها فشلها في هذا. وإذا استطاب بعضُهم القول إنها الإمكانات المالية لدولة قطر كانت السبب الأساس في إحراز استضافتها العالم للتباري في كرة القدم، فهذا كلامٌ ناقصٌ، وسيئ النية، مع التسليم البديهي بأن للإمكانات المالية ضرورتَها لتجهيز أفضل مستوى لما يلزم لإقامة أرفع بطولةٍ كونيةٍ رياضية، غير أن هذا وحده ليس كافيا أبدا، ولكي يؤدّي مؤدّاه يحتاج أن يتوازى مع كفاءةٍ مؤكّدةٍ في التخطيط والتسيير والإدارة والتجهيز.
في الوسع أن يقال هنا، في هذا الخصوص، إنها القوة الناعمة التي أصبحت تُراكمها دولة قطر منذ ما يقترب من ثلاثة عقود، في اللحظة التاريخية (نعم التاريخية) التي بدأت دولٌ عربيةٌ كبرى ذات عطاءٍ مديدٍ وإسهاماتٍ كبرى في المجرى الثقافي والفني والإعلامي والرياضي العربي ترجع القهقرى، وتتآكل صورتها، وترتدّ إلى قُطرياتٍ وسذاجاتٍ ظاهرة. ويتيح هذا التفسير، وإن بدا متعجّلا، النظر إلى المشهد بمستوياته الأعرض، فهذه مصر، والتي ما من مواطنٍ عربيٍّ إلا ويقيم في وجدانه كثيرٌ منها، ليس أمرا عارضا أن صحافاتها، المرئية والمكتوبة، هبطت إلى قيعانٍ مؤسفة، فيما تقدّمت قناة الجزيرة (وشقيقاتٌ لها لاحقا) إلى المواقع التي نعرف، وكان من المشتهى أن ينافسها الإعلام في مصر (وغيرها). وليس الإعلام، عربيا، وحده ما تردّى في البلدان التي حُسبت، عن حقّ، في أطوارٍ مضت، مراكز نهوضٍ وتنوير، بل السياسة وألوانُها أيضا، والثقافة وتنويعاتها. في غضون هذه الخريطة، تأتّى لمنطقة الخليج أن تُزاحم وتُبادر وتنافس، وتنجح هنا وتُخفق هناك، ولولا المكائد والنكايات والحسابات الصغرى والأوهام إياها، لأعطت دول الخليج أكثر، مما يتكامل مع جديدٍ بديعٍ تبادر إليه دول عربية أخرى في المغرب والمشرق.
... هكذا في الوسع أن يُقرأ الترقب العربي والعالمي العريض لنجاحٍ متوقّعٍ في إدارة قطر تنظيمها كأس العالم 2022، سيما بعد بروفة كأس العرب 2021 الجميلة. أما غضب أوباما ذاك، وكذا رمية بيل كلينتون تلك المزهرية، فمن شديد الأهمية أن تبقيا في البال.