قتل الشهود لا يقتل الحقيقة
حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزّة مستمرّة، والتواطؤ، والسكوت الغربي عن المجزرة عار... ليست هذه المرّة الأولى التي تُمارس فيها إسرائيل عربدتها، وتعتبر نفسها فوق القانون، فقد ظلت بعيدة عن المحاسبة والمساءلة 75 عاماً، ولم تطًل يد العدالة قادتها الذين ارتكبوا جرائم كثيرة، وداسوا ببساطيرهم على كل المعاهدات والاتفاقيات الدولية الواجب تطبيقها.
"يا وحدنا".. هذا لسان كل إنسان فلسطيني في غزّة بعد أن عمّت حالة العجز العربي، وبعد أن تحوّل القائمون على النظام الرسمي العربي إلى مشاهدين يتابعون عدّاد الشهداء، هذا إذا تغاضينا عن أنه يطيب لبعضهم الإجهاز على روح المقاومة.
في الأسابيع الماضية التي حصدت فيها طائرات وصواريخ الاحتلال أرواح آلاف من الأطفال، والنساء، ودمّرت متعمدة مستشفيات، ومدارس، ومساجد، وكنائس، وقطعت الكهرباء، والماء، والاتصالات، ومنعت الغذاء والدواء، وكلها جرائم حرب وفق القانون الدولي الإنساني، كان الصحافيون في فلسطين في عين الاستهداف الممنهج من جيش الاحتلال، وآلته العسكرية الغاشمة.
تؤكّد نقابة الصحافيين الفلسطينيين، حتى كتابة هذه السطور، استشهاد 26 صحافياً وصحافية، وإصابة أكثر من 20، وتدمير مقرّات أكثر من 60 مؤسسة إعلامية، وما زال هناك صحافيان مختفيان، عدا عن اعتقالات تتسع للصحافيين في الضفة الغربية، وكذلك استهداف ممنهج لعائلات الصحافيين في غزّة، كما حدث مع مدير مكتب قناة الجزيرة، وائل الدحدوح، وذلك كله بغرض كسر معنوياتهم، وتهديدهم، وإخافتهم.
يوثّق المكتب الإعلامي التابع لحركة حماس أن عدد شهداء الصحافة في غزّة زاد عن 34 صحافياً وصحفية. وفي كل الأحوال، الإعلام في فلسطين في دائرة الخطر، والجرائم بحقّه مستمرّة، فقبل أكثر من عام، اغتال جيش الاحتلال، بدم بارد، الصحافية المتميزة شيرين أبو عاقلة، وأنكر أنها من قتلها، رغم أن أصابع الاتهام وجّهت له، وكل تحقيقات المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية، ومؤسسة بتسيلم الإسرائيلية أجمعت بالأدلة على أنّ هذا الجيش هو من قتل شيرين. وبعد عام ونصف العام، أعلنت الأمم المتحدة، وبعد تحقيق مستفيض للجنة مستقلة، أن إسرائيل هي القاتل، فكان ردّ فعلها المباشر أن جرّفت مكان النصب الذي شُيّد لها في موقع استشهادها.
الخطر الذي يحيق بالصحافيين في غزّة يفرض من جديد مناقشة جدّية لأهمية اعتماد اتفاقية جديدة لحماية الصحافيين، توفر لهم حصانات تختلف، وتزيد عن الحصانات المنصوص عليها للمدنيين
يقتل الاحتلال الصحافيين، لأنه لا يريد شهوداً على جرائمه، ونقول له "قتل الشهود لا يقتل الحقيقة"، استهداف الصحافيين خرق فاضح للقانون الدولي الإنساني، وخصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة التي نصّت على حماية المدنيين، وبالطبع الإعلاميين منهم، والاحتلال لا يُلقي بالاً إلى المعاهدات والاتفاقيات، ويتصرّف كدولة مارقة. ولهذا، طاول الاستهداف المستشفيات، والطواقم الطبية، والصليب والهلال الأحمر، ولم يسلم من القصف حتى موظفو الأمم المتحدة مثل "أونروا".
الخطر الذي يحيق بالصحافيين في غزّة يفرض من جديد مناقشة جدّية لأهمية اعتماد اتفاقية جديدة لحماية الصحافيين، توفر لهم حصانات تختلف، وتزيد عن الحصانات المنصوص عليها للمدنيين، لأن طبيعة عملهم تفرض عليهم أن يكونوا في الصفوف الأمامية وقت النزاعات والحروب، ولا يستطيعون أن يلوذوا بالملاجئ إن توفرت.
تنبهت الأمم المتحدة إلى الأمر قبل عقود، وفي عام 1971 صدرت توصية رقم 2854 بتاريخ 20 من شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه بضرورة وجود اتفاقية حماية للصحافيين، وفي 1972 تم التوافق على مسودة اتفاقية من 14 مادة، وبعدها بعام، قرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في توصيتها رقم 3058 أنه من المرغوب اعتماد اتفاقية لحماية الصحافيين، ولكن هذه الاتفاقية لم ترَ النور، واكتفي بالمادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف.
الإعلام الغربي الذي أشبعنا حديثاً عن المعايير المهنية، وفي مقدمتها تحرّي الحقيقة، والدقة، وعرض الآراء، يسقط في الاختبار بشكل مخزٍ
ما يحدُث في غزة بالتأكيد أكبر بكثير من قتل للصحافيين، فهي حرب إبادة بكل دلالاتها في القانون الدولي الإنساني، وإسرائيل تخرق المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقاب الجماعي، وتدوس على المادة 23 في الاتفاقية نفسها التي تكفل مرور الأدوية، والمهمات الطبية في النزاعات والحروب، وتنتهك المادة 59 التي تؤكّد على ضمان السماح بعمليات الإغاثة، وبالتأكيد عصفت بالمادة 49 التي تحظر التهجير القسري. وتتوفر في كل هذه الخروق أركان جريمة الإبادة الجماعية، المنصوص عليها في المادة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
النصوص في المعاهدات والاتفاقيات واضحة من دون التباس، ولكن العالم الغربي الذي أشبعنا تنظيراً عن حقوق الإنسان منحازٌ للجلاد الإسرائيلي على حساب الضحايا الفلسطينيين، متجاهلاً مبادئ أساسية كحقّ الشعوب في مقاومة المحتل، وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. ولم يتوقف الاصطفاف الغربي الوقح والأحمق مع دولة فصل عنصري بالاستناد لتقارير أممية، عند إغماض العيون عن قتل آلاف الأطفال في غزّة، بل امتد لترويج قصص مُفبركة، وكاذبة، واختلاقها. وكان أبرزها قطع "حماس" رؤوس الأطفال الإسرائيليين والتي ردّدها بشكل بشع الرئيس الأميركي بايدن، وتلقفها الإعلام الغربي، وتبيّن بعد أيام أنها رواية كاذبة، ومُختلقة.
الإعلام الغربي الذي أشبعنا حديثاً عن المعايير المهنية، وفي مقدمتها تحرّي الحقيقة، والدقة، وعرض الآراء، يسقط في الاختبار بشكل مخزٍ. ولا يعود هذا السقوط للمفاهيم إلى نقص في المعرفة، فهم يدركون أهمية التوثق من صحة المصادر، ويعرفون كيف يتأكّدون من صحة الصور، ولكنهم اختاروا الانحياز السياسي، وتخلّوا عن استقلاليتهم، وقبلوا بانتهاك كل المعايير المهنية، ومدوّنات السلوك الأخلاقية، وصاروا في معظمهم بوقاً للشيطان (الاحتلال الإسرائيلي). وتُشعرك البرامج الحوارية على بعض شبكات التلفزة الغربية، من اللحظة الأولى، بأنهم منحازون، بعضهم لا يرتدي لباساً صحافياً، بل كان الأحرى به حتى يتصالح مع الجمهور أن يرتدي بزّة جيش الاحتلال، فهو طوال الوقت يريد منك إدانة الضحية، وإيجاد المبرّر للقاتل.
الحرب التي تشنّها إسرائيل على الشعب الأعزل في غزّة يوازيها بعنف جيش إلكتروني تجنّده إسرائيل يحاول أن يُضلل العالم
سيطرت الرواية الإسرائيلية، وفق تقرير لمعهد السياسة والمجتمع، ومؤسسة مكانة 360، وحصدت تعاطفاً في الأسبوع الأول على منصّات التواصل الاجتماعي، لكن هذه المعادلة توازنت بعد استهداف إسرائيل مستشفى المعمداني، وبعد اهتمام الجمهور العربي بكتابة محتوى باللغات الأخرى غير العربية، وخصوصاً الإنكليزية، وبعد تدخل من مؤثرين مشهورين: مثل باسم يوسف، لمساندة عدالة القضية الفلسطينية، وتقديم سردية مقابلة للأكاذيب الإسرائيلية.
الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب الأعزل في غزّة يوازيها بعنف جيش إلكتروني تجنّده إسرائيل، وتساندها دول غربية، وشركات عملاقة، يحاول أن يُضلل العالم، ويُبعد عن المشهد بشاعة الجرائم الإسرائيلية. وبعد أن تُلقي هذه الحرب أوزارها، ونكتشف حجم المآسي التي خلفتها، من الضروري أن نتوقف لنسأل: ماذا علينا أن نفعل، نحن العرب، في التعامل مع ماكينة منصات التواصل الاجتماعي التي تسيطر على هذا الكون، وتبنيه، وتُعيد تشكيله على مقاس من يمتلكها. ولن نشتري بعد اليوم كلامهم عن سياسات هذه المنصات، فقد كانوا شركاء في جريمة العدوان على فلسطين.