04 نوفمبر 2024
قصة ناهض حتّر
قصةٌ مثيرة، وتشيعُ فضولاً لمتابعتها، أن يتوارى الكاتب الأردني، ناهض حتّر، عن الأنظار، فتبحث الشرطة عنه باعتباره فارّاً، بعد أن صدرت بحقه، الليلة قبل الماضية، مذكرة جلب، على ما قال مصدر أمني، عصر أمس السبت، ثم يسلّم نفسه، "مؤكّداً اعتزازه بالقضاء الأردني النزيه". وهو الذي لم يكترث يوماً بأي اعتباراتٍ في نشره آراءه وأفكاره التي غالباً ما اتّصفت بمعاكستها المزاج العام، وبحدّتها وتطرّفها واستفزازها. وقبل أن تتوالى فصول حكايته الجديدة، أوضح الرجل أنه قصد من نشره في "فيسبوك" رسماً كاريكاتيرياً، وُصف بأنه يمسّ الذات الإلهية، السخرية من تصوّر الإرهابيين للرب والجنة. وأن هذا الرسم إذ أغضب مؤمنين طيبين، فلهم احترامه وتقديره، وإذ أغضب "إخونج داعشيين" (بحسب تسميته)، يحملون مخيالاً مريضاً لعلاقة الإنسان بالذات الإلهية، فهؤلاء استغلوا الكاريكاتير "لتصفية حساباتٍ سياسيةٍ لا علاقة لها بما يزعمون".
ولعلّ في وسع أي محامٍ نابه، يوكّله ناهض حتّر، أن يستند إلى هذا الإيضاح في التحقيق الذي أحيل إليه صاحب الشأن. ولذلك، كان غريباً أن تفتش عنه الشرطة، فهذا يسيء إلى سمعته كاتباً ومثقفاً وناشطاً سياسياً، قبل أن يسلّم نفسه. ومع الاحترام لمن دعوا إلى مجادلة حتّر بالتي هي أحسن، بدل الانفعال والتوتر وشنّ حملة كراهية ضده، فإن لدى الكاتب مقادير من النباهة تجعله يعرف أن ما أقدم عليه يمسّ وجدان الناس، وثقافتهم ومشاعرهم الدينية، قبل أن يتحدّث أحدٌ عن الحلال والحرام، والجائز وغير الجائز، وقبل الأخذ والرد في مسألة حرية التعبير بشأن الإرهابيين، الدواعش وغيرهم. وذلك كله فضلاً عن أن شجاعة المثقف في مجتمعه لا تُقاس بمقدار ما يجنح إلى الخصومة مع جوارحهم الدينية، بالدعاوى العلمانية وغيرها، وإنما بقدرته على التعبير عن أشواقهم وتطلعاتهم في دنياهم. ومع القناعة بأن ناهض حتّر لم يقصد المسّ بالذات الإلهية، وبأن مسألةً مثل هذه لا تشغله أصلاً، إلا أنه في تطرّفه العنيف في محاربة الإسلام السياسي، وفي استسهاله ربط المكوّن السني في غير بلدٍ بالإرهاب، يورّط نفسه بما لا يُحسِن تقدير عواقبه.
هذه مشكلةٌ أساسيةٌ في ناهض حتّر الذي يحظى في الأردن، وربما في لبنان وبين السوريين، بقلة الشعبية وسعة المقروئية معاً، فقد أخذته حماسته لشخص بشار الأسد (وليس سورية وحدها) إلى نعت اللاجئين السوريين بما لا يليق، ما دعا جريدةً بيروتيةً، أتاحت له أن يوجّه قذائفه منها كما يريد، إلى أن تعتذر لقرائها، وتوقف نشرها مقالاته. كما أنه وصل، في تعبيراته عن وطنيّته الأردنية، وفي إلحاحه على وجوب حماية الأردن من مخاطر حقيقية وأخرى متوهّمة، إلى أنفاسٍ إقليميةٍ ظاهرةٍ في منطقه، وفي جوهر ما يقوله، صنعت له صورةً شائعةً عند أوساطٍ أردنيةٍ واسعة، مثقفاً مناوئاً للفلسطينيين. وعلى الرغم من ماركسيّته التي يقيم عليها، ومع ولعه الاستثنائي بأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وعلى الرغم من نصرته حرب إيران في سورية، إلا أنه يُنعت بالطائفية ضد المسلمين السنة، وهو الذي ينتسب إلى أهلنا الأردنيين المسيحيين الكرام. وذلك كله بسبب انعدام حذاقته في التعبير عن أفكاره، بلغةٍ أقلّ استنفاراً، مع أن الرجل مسلحٌ ببراعةٍ في السجال (والمماحكة)، وبعتادٍ من الثقافة، في وسعهما أن يُسعفاه في تظهير أفكاره بصيغةٍ قابلةٍ للأخذ والرد معها، لكنه واظب على ما يعزّز صورته، كاتباً متوتّراً، تتوظف المعرفة لديه في التبشير الدعائي بأردنيةٍ ضيقة، وفي خوض حروبٍ، كاريكاتيريةٍ أحياناً، ضد الربيع العربي، وضد عزمي بشارة وفواز طرابلسي وبرهان غليون وكل المثقفين العرب ممن ماثلهم مع برنار هنري ليفي، بكيفيةٍ تبعث على الحزن مما صار عليه هذا الكاتب الذي نتذكّره في الأردن، في شبابه الأول، قبل سنواتٍ بعيدة، شاعراً ومثقفاً واعداً وجريئاً. وهذا هو، الآن، لا يرى القتل في سورية إلا انتصارا للأسد ونصر الله وولي الفقيه الإيراني.. وتفتش عنه الشرطة الأردنية شخصاً مطلوباً، ثم يسلم نفسه لها، بعد أن ورّطه شطُطُه في سخافةٍ تافهة.