قلق السوريين مع فوز أحزاب شعبوية في شرق ألمانيا
لم تكن نتائج الانتخابات التي أجريت في الأول من سبتمبر/ أيلول الجاري، في شرق ألمانيا، تورينغن وساكسونيا، مفاجئة جدّاً، على الرغم من وصفها في بعض المواقع بأنها "زلزال" أو "صدمة"، فاستطلاعات الرأي التي سبقتها كانت تُظهر تراجع شعبية الائتلاف الحاكم، وصعود نسبة مؤيدي الأحزاب والجماعات اليمينية، والشعبوية بشكل عام، خصوصاً حزب البديل من أجل ألمانيا.
صحيحٌ أن هاتين الولايتين من أصل 16 ولاية تضمّان نحو خمسة ملايين ناخب، إنما من أصل 61 مليون ناخب في عموم ألمانيا أو أكثر قليلاً ممن يحق لهم التصويت، لكن لهذه النتائج أهمية تتجاوز محليّتها، فحزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي، المصنّف يمينيّاً متطرّفاً في عديد من أنحاء ألمانيا حصل على ثلث الأصوات في تورينغن، وقريبٌ منها في ساكسونيا. كذلك حصل الحزب الجديد الذي شكّلته سارة فاغنكنيشت على نسبة مرتفعة، وتخطّى بذلك حزبي الخضر والليبرالي.
استلم الائتلاف الحاكم الحالي المسؤولية في أوج الأزمات المتلاحقة. كانت البداية مع جائحة كورونا التي بدأت في الشطر الأخير لرئاسة أنجيلا ميركل الحكومة، ثم جات الحرب الروسية في أوكرانيا التي فرضت أعباء وتحدّيات كبيرة، ومواقف سياسية، ليست ألمانيا حرّة بالمطلق فيها برسم سياساتها، واتخاذ قراراتها في هذا الشأن. لذلك نرى انزياحاً في المزاج العام الألماني، وفي الغرب عموماً، نحو الشعبوية، بسبب الهجرة والسيادة الوطنية والعلاقة مع الاتحاد، وحرب أوكرانيا، تضع الائتلاف الحاكم في موقع مساءلة أمام الناخبين، ونمو الهويات الوطنية في تلك البلدان على حساب التضامن الأوروبي أو التضامن مع أوكرانيا. ويفرض هذا على الأحزاب الحاكمة الثلاثة أن تعمل على مراجعة هذا التغيّر في مزاج الناخبين وخياراتهم. ولا بد للمتابع أن يلاحظ كيف أن هذه المراجعة بدأت بالفعل منذ مدّة، خصوصاً بالنسبة لموضوع الهجرة، زاد في ضرورتها بالنسبة إلى الائتلاف جريمة زولنغن أخيراً، التي ارتكبها شاب سوري لاجئ، فهل يحالفهم الوقت؟ هناك عام للانتخابات المقبلة.
في ظل هذه الأزمات، والتراجع في مستوى معيشة شريحة كبيرة من الشعب الألماني، ازداد تأثير الجماعات الشعبوية اليمينية التي تدعو إلى التشكيك في أسس التعايش الاجتماعي، فكيف حدث ذلك؟ وما هي الاستراتيجيات التي تساعد في مواجهته؟ هذه أسئلة تشغل بال كثيرين من الجهات والمؤسّسات ومراكز الأبحاث والدراسات في ألمانيا، فقد أنجزت مؤسّسة هانز بوكلر تحليلاً لهذه الظواهر عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة، وتحليل الردود عليها، من قبيل ما مدى انتشار المواقف المناهضة للديمقراطية؟ ما الذي يميّز الحزب أو المجموعة اليمينية الشعبوية، وما التصوّر الذاتي الذي يمتلكه مؤيدوها؟ ما الذي يحفّز الناس على التصويت لحزبٍ، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا؟ ما هو الدور الذي يلعبه التكامل الاجتماعي والمهني، وظروف العمل الجيدة أو السيئة؟ وما الذي يمكن عمله لمواجهة انتشار المواقف المناهضة للديمقراطية؟
صحيحٌ أن الاقتصاد الألماني تحسّن في العقدين الأخيرين بشكل عام، لكن نسبة الفقر ارتفعت بشكل ملحوظ اعتباراً من العقد الماضي
لا بد من الإشارة مبدئيّاً إلى أن دراساتٍ عديدة خلصت إلى أن المواقف المناهضة للديمقراطية يمكن العثور عليها أيضاً في وسط المجتمع، أو بين الناس الذين يروْن أنفسهم في الوسط سياسيّاً أو اقتصاديّاً. تصف بيتينا كولراوش مديرة معهد العلوم الاقتصادية والاجتماعية التابع لمؤسسة هانز بوكلر، الشعبوية اليمينية بأنها فهم للمجتمع، حيث يكون الشعب معادياً لنخبة يُفترض أنها منعزلة في السياسة والإعلام والقضاء، وتوضح أن هذا الفهم الشعبي لا يمكن فصلُه عن المواقف العنصرية، على عكس الحجج التي يردّدونها. وفي حين أن الهجرة مرفوضة بالمطلق بالنسبة إليهم، فإن المؤسّسات الديمقراطية تُقابل بازدراء مماثلٍ تقريباً، كما يقول كولراوش، وهذا يُحدث أرضاً خصبة لخرافات المؤامرة التي ترسّخت جذورها عميقاً خلال جائحة كورونا.
ونتيجة للأزمات التي باتت تُرخي بثقلها بشكل ملموس ومزعج على شرائح من الشعب، وتأثير الحرب الروسية في أوكرانيا على الاقتصاد ونشاط بعض الشركات، والاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي في السنوات القليلة الماضية ظهرت مجموعات متضررة أصبحت عرضةً بشكل خاص للعروض اليمينية الشعبوية، توصلت دراسات إحصائية إلى أن التصويت لحزب البديل من أجل ألمانيا يتم، في أحيانٍ كثيرة، في الطبقات الاجتماعية ذات الدخل المنخفض، كما يوضح عالم الاجتماع توماس لوكس، أن نسبة ناخبي هذا الحزب البديل كانت في العام 2016 في الفئات ذات الدخل المنخفض (الأشخاص الذين يحصلون على أقل من 70% من الدخل المتوسط) تشكّل 15%، ونسبة الناخبين ذوي الدخل المتوسّط كانت 15%، في حين أن نسبة الدخل فوق المتوسط أو المرتفع كانت 9%، بالإضافة إلى ذلك، من بين الأحزاب الألمانية الأكبر حجماً كان "البديل"، والذي ضم أنصاره أكبر عدد من الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض.
توصلت دراسات إحصائية إلى أن التصويت لحزب البديل من أجل ألمانيا، المتطرف، يتم، في أحيانٍ كثيرة، في الطبقات الاجتماعية ذات الدخل المنخفض
صحيحٌ أن الاقتصاد الألماني تحسّن في العقدين الأخيرين بشكل عام، لكن نسبة الفقر ارتفعت بشكل ملحوظ اعتباراً من العقد الماضي، خصوصاً في السنوات الخمس الفائتة. لذلك اتسعت الفجوة المالية بين الأسر التي تعيش على خط الفقر، بمعايير الفقر بالطبع بالنسبة إلى هذه البلاد، ومتوسّطي الدخل، وأظهرت تقارير أن عدم المساواة في الدخل وصل إلى مستويات مقلقة في 2022، خلال أزمة كورونا، هذا ما أدّى إلى دفع شريحة كبيرة من المجتمع، ممن انخفض مستوى عيشهم، إلى الشعور بعدم الأمان والخوف من الغد، وعدم الحفاظ على مكانة اجتماعية، ما ساهم في تزعزع الثقة بالنظام، أو الحكومة الحالية. زيادة على ذلك، فقدان فرص العمل بسبب السياسات الجديدة التي اتخذتها شركاتٌ كثيرة، والتحوّل إلى العمل عن بعد، وازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، أدّت كل هذه العوامل إلى تغيّر مزاج الناخبين وانزياحهم نحو الأحزاب اليمينية المتطرّفة، أو الأحزاب الشعبوية، فهل يمكن توقع نتائج مماثلة في الانتخابات التي سوف تتوالى في المدن الألمانية الأخرى، خصوصاً المدن الغربية وذات الاقتصادات الكبيرة؟
سؤال يقلق المهاجرين بالطبع، خصوصاً السوريين منهم، الذين تنتظرهم حياة بائسة وصعبة في حال ترحيلهم، فيما لو وصلت إلى الحكم حكوماتٌ من أول أولوياتها مشكلة الهجرة واجتراح قوانين تحدّ من هذه الظاهرة، فبالنسبة لحزب "البديل..." إنه يعدّ كل من لم يندمج مع المجتمع والثقافة الألمانيين يجب أن يخرج من ألمانيا. هذا هو الغد بالنسبة إلى السوريين في كل مكان، غد ضبابي، مقلق، لا يمنح الأمان، لا يمكن البناء عليه في حياة مستدامة، أما العودة إلى ما كان اسمها سورية، فلهذه حديث آخر.