قمم أردوغان مع بوتين وبايدن
عادة ما تشكل القمم التي يعقدها الرئيس التركي، أردوغان، مع نظيريه الروسي والأميركي، فرصا لتسليط الضوء مجددا على المُعضلة التي تواجه أنقرة في إحداث توازن في علاقاتها بين قوتين عالميتين متنافستين، لا تستطيع تجاهل أي منهما، ففي حين أن الشراكة التاريخية التي تجمع تركيا بالولايات المتحدة، وتعود إلى عقود طويلة، لم تحل دون بروز خلافات كبيرة بينهما في قضايا عديدة، وهي تستعصي على الحل مع مرور الزمن، يُشير تعاونها مع موسكو خلال السنوات الأخيرة إلى حالة يصعب تفسيرها. أنقرة وواشنطن اللتان ترتبطان بتحالف نشأ بعد انضمام الأولى إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمواجهة الاتحاد السوفياتي باتتا على طرفي نقيض في معظم القضايا، في وقت تبدو فيه تركيا قادرة على الدخول في تفاهماتٍ واسعة مع وريثة الاتحاد السوفياتي في معظم تلك القضايا.
اجتماع أردوغان وبوتين في سوتشي أخيرا، استغرق ساعتين و45 دقيقة، بينما القمة الأولى التي جمعت أردوغان وبايدن في بروكسل، منتصف يونيو/ حزيران الماضي، لم تستغرق أكثر من 45 دقيقة. قد يُفسّر هذا الفرق في المدّة أن قمة سوتشي كانت خاصة لبحث ملفات عديدة، من سورية إلى ليبيا، مروراً بالتعاون الدفاعي بين البلدين ومسألة الغاز، فيما قمة بروكسل كانت تعارفية بالدرجة الأولى، على اعتبار أنها الأولى التي تجمع الرئيسين بعد وصول بايدن إلى السلطة. ولكن هناك نتيجة مثيرة، أن أردوغان يستطيع التحدّث مع بوتين وقتا أطول بكثير من الوقت الذي يتحدّث فيه مع بايدن. ليست هذه مقارنة شكلية فحسب، بل تعكس، على نحو كبير، الأزمة التي تواجه العلاقات التركية الأميركية منذ سنوات، والمرونة التي تتميز بها العلاقات التركية الروسية، على الرغم من أن خلافات أنقرة مع موسكو لا تبدو أقل حجماً وعمقاً من خلافاتها مع واشنطن.
في قمة سوتشي، أقر بوتين بصعوبة المفاوضات مع تركيا أحيانا، لكنّه قال إن البلدين تعلّما كيفية التوصّل إلى حلول مُرضية لكليهما
في قمة سوتشي، أقر بوتين بصعوبة المفاوضات مع تركيا أحيانا، لكنّه قال إن البلدين تعلّما كيفية التوصّل إلى حلول مُرضية لكليهما. هذه الحقيقة مهمة لدراسة الحالتين، التركية الروسية والتركية الأميركية، ففي حين أن التنافس بين أنقرة وموسكو في معظم المسائل الخارجية، كسورية وليبيا والقوقاز، لم يُشكل مانعاً أمام التعايش بينهما، وتقاسم النفوذ بشكل مُربح للطرفين، تبدو أنقرة وواشنطن عاجزتين عن تجاوز مُعضلة سنوات طويلة من التفاوض في بعض القضايا الخلافية، من دون نتيجة. ولا يرجع السبب إلى استحالة الوصول إلى توافق، بقدر التصوّرات العدائية المُسبقة التي تتحكم حالياً بالعلاقات التركية الأميركية. بايدن وأردوغان لا يثقان ببعضهما. ما زال حديث بايدن، قبل وصوله إلى البيت الأبيض، عن ضرورة توحد المعارضة التركية لإطاحة أردوغان يُردّد صداه في القصر الرئاسي بأنقرة. وقبل ذلك، لا يزال دور إدارة أوباما المزعوم في دعم محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان يعزّز تصوراً لدى الأتراك بأن الأميركيين سعوا، وربما مستمرّون، إلى إطاحة بأردوغان وإضعاف حكمه.
لم يلعب بوتين دوراً مشابهاً لدور الأميركيين ضد أردوغان، رغم المنحى الخطير الذي سلكته العلاقات في أعقاب حادثة إسقاط المقاتلة الروسية عام 2015. لا بل إنه بعد نحو عام من ذلك قرّر التصالح مع أردوغان، وأبدى الدعم العلني له بعد محاولة الانقلاب. لا يُخفي بوتين إعجابه بشخصية الرئيس التركي، ليس لأنه منافس صعب لروسيا في القوقاز والبحر الأسود وسورية، ويطمح إلى الارتقاء بدور تركيا الخارجي، بل لأنه يتحدّى باستمرار الضغوط الأميركية، عندما يتعلق الأمر بشراكة تركيا وروسيا وتعاونهما الدفاعي. لم تشهد العلاقات التركية الغربية تدهوراً بالقدر الذي تشهده في عهد أردوغان. في المقابل، لم تشهد العلاقات التركية الروسية تقدّماً بالقدر الذي تشهده في عهد أردوغان. ساعد هذا في تعزيز الثقة على المستوى الشخصي بين الزعيمين، التركي والروسي، إلى درجة أنّ قدرتهما في طرح الحلول للمشكلات الناجمة عن التنافس التركي الروسي تكون حاضرة في كل اجتماع.
بات الروس يتعاملون مع تركيا أنّها قوة صاعدة بقوة، وقادرة على صياغة سياسة خارجية جريئة ومستقلة عن الغربيين
نشرت صحيفة فورين بوليسي الأميركية، أخيرا، أن إدارة بايدن تعمل على تقليص الدور الأميركي في الشرق الأوسط وأفريقيا، بحيث لم يعد في وسع الحلفاء الاعتماد عليها إلاّ بالقدر الذي تُمليه مصالحها قصيرة المدى. وقد أدركت تركيا هذا التحول، منذ إدارة الرئيس الأسبق أوباما، عندما ترددت الولايات المتحدة في توجيه ضربة للنظام السوري بعد الهجوم الكيميائي على الغوطة الشرقية في 2013، وعندما تخلّت أيضاً عن هدف إطاحة نظام الأسد وتركيز دورها على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق. وما زاد في قناعة أنقرة بضرورة تحقيق قدر من الاستقلال عن السياسة الأميركية في المنطقة أن الدعم الأميركي للوحدات الكردية في سورية يُشكل تهديداً مباشراً لها. لذلك فضّلت الانفتاح على موسكو، بعد أزمة إسقاط المقاتلة، وساعدها هذا على التدخل عسكرياً في سورية لمواجهة المشروع الانفصالي المدعوم أميركياً. تراجع الدور الأميركي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقابل صعود الدور الروسي ساهم كذلك في بلورة هذا التوجه التركي.
بات الروس يتعاملون مع تركيا أنّها قوة صاعدة بقوة، وقادرة على صياغة سياسة خارجية جريئة ومستقلة عن الغربيين، وتحمّل عواقبها، بينما الغربيون، بمن فيهم الأميركيون، ينظرون إلى ذلك أنّه تهديد جدّي لقدرتهم على إعادة احتواء أنقرة ضمن منظومتهم، ويتخبّطون في التعاطي معها، بين وسائل العقوبات تارة وتقديم إغراءات لها تارة أخرى. لكنّ العالم اليوم يتغير بسرعة ومتعدد الأقطاب. التحالف عبر "الأطلسي" الذي تركيا جزء منه يضعف مع تحوّل الأولويات الأميركية نحو حصر الإمكانات واختيار حلفاء موثوقين، كبريطانيا وأستراليا على حساب الأوروبيين، من أجل مواجهة التهديد الذي تُشكله الصين على مكانة أميركا العالمية. رغبة أنقرة في قطف هذه اللحظة العالمية لإيجاد مكان خاص بها في العالم الجديد يدفعها إلى عزل نفسها عن الانخراط في المحاور الدولية الناشئة، وتعزيز استراتيجية التوازن بين الشرق والغرب، على الرغم من صعوبتها.