قيس سعيّد .. التلفزيون والفوتوغرافيا
طالعْنا، مرّة، أن رئيس الحكومة التونسية السابق، هشام المشيشي، أبلغ إدارة التلفزيون الحكومي في بلده، امتعاضَه الشديد من بثّ مقطعٍ من لقاءٍ له مع رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، ظهر فيه الأخير يلقى كلاما على المشيشي الذي يظهر مُنصتا فقط، وطالب بأن يُبثّ بعضُ ما قال، غير أن استجابةً له لم تقع. ومما تأكّد، في الأثناء وتاليا، أن ثمّة قرارا، استراتيجيا (؟!) لدى قيس سعيّد أن يُحافَظَ على صورته متكلما فيما زوّاره يُنصتون إليه، مسؤولين حكوميين أو غيرهم، أو يُكتفى بصورةٍ فوتوغرافية، يتصدّر فيها سعيّد الاجتماع وإلى جانبيه زوّاره. وللحقّ، صار فينا، أخيرا، تعاطفٌ كثيرٌ مع نجلاء بودن رمضان، التي اختارها الرجل رئيسةً لحكومةٍ بكماء، بل وإشفاقٌ أكثر عليها، إذ يخيّل أنه يُؤتى بها إلى مكتب الرئيس في قرطاج، لا لشيءٍ، إلا لالتقاط الصورة التلفزيونية هذه، سيما أننا لا نرى من السيدة غير إيماءاتها موافقةً على ما تسمع، ولا نسمع منها أي قول، ليس بفعل الكمّامة ضد كوفيد 19، وإنما لأن من غير المأذون لإدارة التلفزيون التونسي أن تصوّرها تتكلّم. وإذ لم يبلغْنا أن نجلاء بودن لم تسرّب استياءها من هذا الحال، فإن أمرَها هذا يُضاعف كثافة إشفاقنا هذا عليها وتعاطفنا ذاك معها.
في أحدث صور هذا المشهد، المتكرّر، سمعنا قيس سعيّد يقول لنجلاء بودن إنه في مشاركته في القمة الأوروبية الأفريقية في بروكسل الأسبوع الماضي أوضح لمن اجتمع بهم والتقاهم مبرّرات ما أصدره أخيرا من قرارات. ولكن الرئيس في هذا لا يقول الصحيح، فلم يعقد سوى اجتماعين أو ثلاثة في زيارته التي اصطحب فيها زوجتَه (ليس معهودا اصطحاب الرؤساء زوجاتهم في مؤتمرات واسعة كهذه)، مع مصافحاتٍ بروتوكوليةٍ مع غير رئيس وضيف. وأحد اجتماعاته هذه كان مع زميله المصري، عبد الفتاح السيسي، وكان لقاء مجاملة، وليس خبرا أبدا أن السيسي أكّد دعم بلادِه "للجهود المبذولة من قبل الرئيس قيس سعيّد، لتجاوز كافة التحدّيات وتحقيق الاستقرار والأمن في البلاد". أما الخبر، فهو أن قادةً أوروبيين رفضوا الاجتماع به. والأهم أن رئيسة البرلمان الأوروبي، روبرتا ميتسولا، نشرت صورة لقائها معه، في تغريدةٍ لها في "تويتر"، بدا فيها ظهرُه وليس وجهُه، فيما وجهُها نراه واضحا، فاحتجّت الخارجية التونسية (تفعل شيئا إذن!)، بعد أن علّق من علّقوا أن الصورة تبيّن قيس سعيّد بشكل أقرب إلى التلميذ أمام أستاذِه، فاستجابت ميتسولا، ثم غيّرت الصورة، فشوهدا واقفيْن. وهنا، ليس من سلطةٍ للرئيس المغترّ بنفسه، فنقرأ في التغريدة إن المسؤولة الأوروبية تحدّثت "مع الرئيس قيس سعيّد عن أهمية العودة إلى ديمقراطية برلمانية فاعلة وتوازن مؤسسات فعال. إن مكافحة الفساد ونظام العدالة المستقلّ ضروريان للتنمية الاجتماعية والاقتصادية للشعب". هنا الدرس الذي تُخبرنا التغريدة أن قيس سعيّد سمعَه في بروكسل، وليس الذي يُسمِعه هذا للمستقدَمين إلى مكتبه في قرطاج.
دعْك من الصورة التي شوهد فيها سعيّد يصافح فيها مستقبلي الجميع في افتتاح القمة، ومنهم الرئيس ماكرون، وشاهِد التي نشرتها صفحة الرئاسة التونسية، صورة قيس سعيّد (وزوجته) في مأدبة عشاء على هامش القمّة. صورة غير واضحة تماما، للزوجين من الخلف، نرى ظهريْهما، وأمامهما جليسٌ يشيح بوجهه، غير معروف، فيما ماكرون، صاحب الدعوة، بصفته الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، يحادِث سعيّد واقفا، كأنه كان مارّا بالطاولة. ومعه كل الحق، السياسي التونسي، عبد الهاني الهاني، لمّا غرّد إن هذه "صورةٌ مهينةٌ لرئيس الجمهورية وللجمهورية، صورة ضبابية ومن الخلف، إلى جانب حرمه المصون، وعلى طاولة جانبية". ويرى المغرّد أنه يجب سحب هذه "الصورة المهينة التي نشرها الهواة الفوضويون المتسلقون لأسوار الدولة". .. والسؤال هنا: إذا كانت صورةٌ بائسةٌ مثل هذه تُنشر على صفحة الرئاسة التونسية، لماذا، إذن، نشطت الخارجية التونسية، في اتصالاتٍ دبلوماسيةٍ استهلكت ساعات، من أجل أن تستبدل رئيسة البرلمان الأوروبي صورتَها مع قيس سعيّد، عندما لا نرى فيها وجهَه؟
هذا من جديد وقائع رئيس تونس، تنضاف إلى استيائه من وضع "الاستشارة الوطنية الإلكترونية" التي قرّرها بين قوسيْن في الإعلام الحكومي، وإلى تعاطفٍ مستحقٍّ مع نجلاء بودن رمضان. والخلاصة أن ذلك الاحتيال بالتلفزيون والفوتوغرافيا في تونس لا يمرُق مثلُه في بروكسل.