قيس سعيّد والعقليّة القروسطية
يُشير مصطلح القروسطية إلى القرون الوسطى التي اتصفت بانتشار أنماط من العقليات المتحجرة والجامدة التي تميل إلى المثالية، ولكن بالأقوال والمبادئ فقط، بعيداً عن الواقع المعاش. كانت تلك العقليات تميل إلى التعصّب لفكرة معينة من شخص أو مجموعة من الأشخاص، من دون قبول النقاش فيها أو الإتيان بأي دليل ينقضها، فتراها تجد مبرّراً لكلّ خطأ أو نكبة، فكرية كانت أو حضارية، لتصطلح مع نفسها من خلال هذا المبرّر، بعيداً عن اللوم والتغيير الحقيقي لتدارك الأخطاء وتصحيح المسار.
يتّصف صاحب هذه العقلية باليقين المطلق بصحّة ما لديه من أفكار من دون الحاجة للدليل على صحتها. ويصاحب هذا اليقين إنكار كامل للآخر وإنكار أفكاره ورفضها واعتبارها باطلاً مطلقاً من دون نقاشه فيها أو بحث ما لديه من أدلة، كما أنّ صاحب هذه العقلية يتميّز بأنه تبريري بامتياز، فهناك مبرّر لكل خطأ أو مشكلة أو حال سيئ لمجتمع، وهو في الغالب يؤمن بوجود مؤامرةٍ تستهدف المجتمع أو أصحاب فكر أو توجّه معين، ويعلّق كل الأخطاء الموجودة والتخلف والرجعية وعدم الإنتاج والفشل السياسي والاجتماعي على شمّاعة المؤامرة.
ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة البسيطة أنّ بعض الأحداث يكون لها خصوصية لافتة، تجعلك تستحضرها بقوة، لدلالة ما قد تفرضه مستقبلاً، فما يحدث في تونس حالياً على وقع أحدث أزمة مؤسساتية تعيشها البلاد، بعد قرار الرئيس التونسي، قيس سعيّد، حل المجلس الأعلى للقضاء، واستبداله بآخر مؤقت لا سند قانونيا ودستوريا له، سوى مراسيم مؤقتة يصدرها رئيس الجمهورية، يدعو إلى الحديث عن عقلية الرئيس سعيّد، والتي يمكن نعتها بالقروسطية في ضوء نهج التفكير والأقوال والأفعال والمبرّرات التي يسوقها لتنفيذ مشروعه الخاص، والذي يرى فيه باحثون ومهتمون عديدون أنّه يأخذ تونس باتجاه دكتاتورية قروسطية تحكم بأساليب القرون الوسطى.
تحوّل قيس سعيّد إلى حاكمٍ فرد يختصر في ذاته وإرادته الشعب والدولة والوطن
لقد بدأ سعيّد، منذ وصوله إلى قصر قرطاج عام 2019، بتنفيذ خطته لفرض مشروعه الخاص القائم على بناء نظام سياسي تونسي من خلال انقلابه الذاتي الذي بدأه في يوليو/ تموز الماضي، بتجميد عمل البرلمان، وحل حكومة هشام المشيشي واستبدالها بحكومة ضعيفة يسيطر عليها، وتعليق العمل بالدستور، والحُكم من خلال المراسيم الرئاسية، وحل هيئة مكافحة الفساد، وحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وفرض خريطة طريق سياسية تتضمن استشارة وطنية إلكترونياً واستفتاء شعبيا وانتخابات برلمانية نهاية العام الجاري. ومنذ ذلك الوقت، لم يخفِ رفضه الصيغة الدستورية الحالية، ولم يخفِ طموحه بحل البرلمان وتغيير النظام السياسي، كما لم يخفِ نظرته السلبية إزاء الأحزاب التي يعدّها أنموذجاً وهيكلاً سياسياً فاشلاً غير قادرة على تلبية طموح الشعب التونسي وتطلعاته بعد الثورة. منذ ذلك الوقت أيضاً، بنى كل خطاباته على معارضة الأحزاب وكل القرارات والتحرّكات الصادرة عنها لكسب ثقة التونسيين الذين غازلهم بخطاباته الشعبوية بكلام جميل وشعارات زائفة حبّبتهم فيه وكرّهتهم في النخب السياسية والنظام السياسي، إلى جانب حملات إعلامية كبيرة وممنهجة استهدف بها خصومه، ترافقت باعتقالات وإقامات جبرية وحظر للسفر استهدفت قوى سياسية وبرلمانية عديدة، بتهم التخابر مع الدول الخارجية وحياكة المؤامرات، بعد أن رفض الحوار مع من يصفهم بـ "المتآمرين والمنافقين والفاسدين وذوي النفوس المريضة".
وبالتالي، تدخل إجراءات سعيّد وممارساته المتتابعة والمتناسقة، منذ استلامه رئاسة تونس، في صلب خطته الهادفة إلى إعادة تشكيل المنظومة السياسية التونسية بكاملها وفقاً لعقليته القروسطية في محاولةٍ للإمساك بكامل خيوط السلطة السياسية واستكمال السيطرة على الدولة التونسية كخطوة متقدّمة لترسيخ دكتاتورية قروسطية، تحكم بأساليب القرون الوسطى، من خلال نسف مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالها عن بعضها، ليتحوّل سعيّد إلى حاكمٍ فرد يختصر في ذاته وإرادته الشعب والدولة والوطن.
بسيطرته على القضاء يكون قيس سعيّد قد أجهز على الديمقراطية الناشئة في تونس، وحوّلها إلى دكتاتورية قروسطية
هذا هو مشروع قيس سعيّد لتونس وفق رؤيته القروسطية، فهو يرى أنّه الحاكم بأمره، وهو ماضٍ في تحقيق مشروعه، ليكون بذلك نسخة كربونية عن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي يدعم كل تحرّكاته وإجراءاته، مستنداً في تحقيق ذلك على خمسة عوامل أساسية: شعبيته المدعومة بأكثر من ثلاثة ملايين ناخب، تشتت المعارضة التونسية وضعف أدائها، خطاب شعبوي يغازل المواطنين بكلام جميل وشعارات زائفة، دعم المؤسستين الأمنية والعسكرية وبعض الأحزاب المناهضة لحركات الإسلام السياسي، مساندة دول عربية وإقليمية، وغض طرف دولي للإجراءات التي يتخذها.
خلاصة ما سبق، بسيطرته على القضاء يكون قيس سعيّد قد أجهز على الديمقراطية الناشئة في تونس، وحوّلها إلى دكتاتورية قروسطية، من خلال ما يمكن تسميته "الانقلاب الذاتي" الذي تأتّى له من خلال سيطرته على كل السلطات، فحاز السلطة التنفيذية وجمّد السلطة التشريعية ودجّن السلطة القضائية، ووضع خريطة لسن دستور جديد مغاير للدستور الذي وصل من خلاله إلى الحكم، ولم يبقَ أمامه إلا حلّ الهيئة المستقلة للانتخابات وهيئة الإعلام لتستكين له كل الأمور.