كارثة السودان بلا استجابة
نادراً ما يكون تناول وضع بلد عربي إلا للحديث عن أزماته لا إنجازاته، والسودان ليس استثناء. منذ إبريل/ نيسان 2023، عندما تفجر الصراع بين حليفي الأمس، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع السودانيّة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، طغت أخبار الحرب وتحوّل السودان إلى عنوان رئيسي في نشرات الأخبار على شاشة التلفزة وتصدّر الأخبار التي تتابعها الوكالات، ثم بعد أشهر، أمكن ملاحظة تراجع هذه التغطية، ليس بسبب حرب غزّة التي تحوّلت إلى أولوية في التغطية الخبرية، بل بدأ الأمر قبل ذلك.
تفقد الصراعات، عندما تتحوّل إلى مستدامة، جزءاً من اهتمام الرأي العام العالمي بها، يصبح الحديث عن القتل والمجازر أمراً روتينياً، يجوز عندها الحديث عن أزماتٍ منسيةٍ أو مهملة. لكن المشكلة أن هذا التراجع في الاهتمام لا يرتبط بأي تراجع في وتيرة القتل. كلما توفرت معلومات جديدة جرى توثيقها من إحدى مدن القتال في السودان، تكشّفت أهوال عما يتعرّض له مدنيون من قصف بالطيران والمدافع أو قطع في الطرق، وصولاً إلى الإخفاء القسري والجرائم الجنسية. وفي كل مرّة، توجه أصابع الاتهام إلى أحد الطرفين الرئيسيين، لا يتأخّران في الخروج ببيانات يتنصلان فيها من المسؤولية ورمي أي تجاوزات على عناصر متفلتة هنا وهناك بينما ينشغلان في حربهما المتواصلة.
يحدث ذلك كله بينما تكبر الكارثة الإنسانية في هذا البلد. لخّص منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، ما جرّته الحرب بالقول إن "عشرة أشهر من النزاع حرمت السكان في السودان من كل شيء تقريباً، الأمن والمأوى وسبل العيش". وتخبرنا منظمته نفسها أن الجوع لم يستثن أحداً من السكان، ويواجه حوالى 18 مليون شخص في جميع أنحاء البلاد حالياً أزمة حادّة، بحسب الأمم المتحدة. أما أرقام منظمة أطباء بلا حدود فكانت مفجعة بشأن ما يجري في مخيّم زمزم للنازحين في دارفور، إذ أفادت بأن طفلاً يموت كل ساعتين في المخيّم جرّاء الجوع وغياب الرعاية الصحية.
تحتاج محاولة التخفيف من هول هذه الكارثة الإنسانية إلى ما لا يقل عن أربعة مليارات دولار. ولكن من الصعب توقع أن تتمكّن الأمم المتحدة من جمع المبلغ لأٍسباب عدة، يرتبط بعضها بعدم وفاء دول عديدة بالتزامات تقدّمها، وترتبط أسبابٌ أخرى بنقص التمويل الذي يهدّد جميع الوكالات، فضلاً عن عدم ثقة مانحين كثيرين بالقدرة على وصول المساعدات إلى مستحقيها في ظل عمليات النهب التي لم تسلم منها حتى مستودعات الوكالات الأممية. وقد يفسّر هذا إصرار الأمم المتحدة على عقد اجتماع مع طرفي الحرب لبحث مسألة إيصال المساعدات.
أعلنت الأمم المتحدة الأربعاء الماضي أن طرفي النزاع السوداني اتفقا على عقد اجتماع على الأرجح في سويسرا لبحث مسألة إيصال المساعدات الإنسانية. وعلى الرغم من إعلانها موافقة البرهان وحميدتي على اللقاء، فإن حضورهما شخصياً، أو عبر ممثلين عنهما، سيبقى موضع شك حتى الدقيقة الأخيرة بسبب ما تظهره التجارب. فكلما بُذلت جهود لجمعهما وبحث الحرب تنصّل أحدهما في اللحظة الأخيرة مختلقاً ذرائع لتبرير انسحابه. يبدو استمرار الحرب مصلحة مشتركة لكلٍّ منهما، وإن كانت أحداث الأشهر العشرة الماضية منها، قد أظهرت عجز أيٍّ منهما عن حسمها لصالحه، وأن ما يبدو ميلاً في الكفّة لأحدهما في بعض الأحيان سرعان ما تتبدّل الأمور وتنقلب المعادلة.
بانتظار تهيئة الظروف، ليس فقط الداخلية، بل أيضاً الإقليمية والدولية، للضغط باتجاه تسوية تضع بموجبها الحرب أوزارها، سيستمرّ المدنيون في دفع ثمن هذه الحرب من أرواحهم وحاضرهم ومستقبلهم.