كارثيّة "طوفان" سوري
كأنّ الإبادة الإسرائيلية المرتكبة بحق الفلسطينيين منذ عملية طوفان الأقصى قبل عام تغري بعض السوريين ممن اختبروا طيلة ثمانية أعوام على الأقل (بين 2012 و2020)، ما يشبه الذي يُرتكب منذ سنة في غزة ومنذ أسابيع في لبنان من قتل جماعي وتدمير شامل واحتلال للأرض. تفيد أنباء واردة من شمال غربي سورية بأن استعدادات تجريها فصائل معارضة و"هيئة تحرير الشام" (وجب التذكير دائماً أنها الفرع السوري من تنظيم القاعدة وإن غيّرت اسمها) لشنّ عمل عسكري كبير ضد قوات النظام السوري وحزب الله والمليشيات الإيرانية في ريفَي إدلب وحلب، يحرّك الجبهات المتوقفة فعلياً منذ مارس/ آذار 2020. الهدف المتداول للمعركة المأمولة رنّان فخم، من نوع قلب الطاولة، وتغيير موازين القوى، وتوجيه الضربة القاضية في سبيل التحرير. شعارات تشبه تلك التي تم إلباسها لعملية 7 أكتوبر (2023) في مستوطنات "غلاف غزّة"، وقد استغلها الإسرائيلي ليقضي على ما تبقى للفلسطينيين من بشرهم وبلدهم وقضيتهم، بدءاً من غزّة وصولاً إلى الضفة الغربية ومروراً بالقدس، وكلما كبرت الكارثة في الواقع زادت قصائد الغزل في البيانات وعلى الشاشات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي ترسيخاً لثقافة سياسية تتقن قلب المفاهيم، فتسمّي الهزائم انتصارات وتتعامل معها على هذا النحو.
يرى سوريون من فصائل معارضة ومن تنظيم الجولاني اليوم أن الأرض ممهّدة لا سيما بعد الضربات الهائلة التي يتلقاها حزب الله في لبنان أو سورية وسحبه مقاتلين إلى لبنان، كذلك استغلالاً لاستهداف المليشيات الإيرانية بغارات إسرائيلية شبه يومية في مختلف المحافظات السورية، للتقدم مجدداً ولتغيير خرائط السيطرة المجمدة بموجب الاتفاقات الروسية ــ التركية ومسار أستانة سيئ الذكر. المطلعون على الدردشات والتسريبات الدائرة على حسابات المكتب الإعلامي لـ"هيئة تحرير الشام" وغرفة عمليات الفتح المبين (تضم فصائل معارضة وهيئة تحرير الشام) ينقلون أجواء يجب أن تثير ذعراً لما تفضحه من شعور بفائض قوة متخيلة رأينا أحد ترجماته في غزة وفي لبنان. هناك، في كوكب الحالمين بتنفيذ ما يشبه 7 أكتوبر سورياً، يقولون إن الظروف باتت مناسبة لبدء المعركة الحاسمة لإزالة وجود النظام السوري في الشمال ومعه مقاتلي إيران وحزب الله، ومن يدري، ربما قاعدة حميميم الروسية وفيالقها المتعددة فوق الأرض السورية. كلام عندما تسمعه يزول أي شك قد ينتابك بأن علاقة هؤلاء المسلحين ومسؤوليهم بالسياسة وبالحسابات الصائبة وبالمصلحة العامة وبالحكمة، هي نفسها علاقة النار بالثلج.
يجهل هؤلاء أو يتجاهلون أن تركيا قد تجد في حملة عسكرية مشابهة فرصة للتخلي عن فصائل معارِضة لا تزال ترفض الالتزام بموجبات رغبة أنقرة بتطبيع علاقتها مع دمشق، فتزيل الغطاء العسكري عنها وتتيح للأطراف الأخرى القضاء عليها، فيكون ذلك الحدث فصلاً من فصول تغيير خرائط الجغرافيا والنفوذ في المنطقة. يجهل هؤلاء أو يتجاهلون أن روسيا قادرة على خوض حروب إبادة على جبهات متعددة، تماماً مثل إسرائيل التي ظلّ رموز محور الممانعة يخبروننا لسنوات بأنها أوهن من بيت العنكبوت وأنها عاجزة عن فتح جبهتين متزامنتين، فإذ بالعالم يشاهد خوضها حرباً على سبع جبهات واحتمال إسقاطها النظام الإيراني وقصف مفاعلاته النووية ومنشآته النفطية ومقرات حرسه الثوري وربما مكتب علي خامنئي نفسه. يجهلون أو يتجاهلون أن روسيا في وحشيتها أمام احتمال خسارة نفوذها في سورية، مستعدة لارتكاب جرائم طبق الأصل عما ترتكبه إسرائيل في فلسطين ولبنان أو أسوأ.
أمام الفصائل السورية المسلحة مهمّة واحدة في مناطق سيطرتها: أن تجعل تلك البقعة الجغرافية صالحة للحياة الآدمية، وأن توسع هامش الحريات فيها وأن يكون سلوكها أقل رجعية وتخلفاً هناك، وأن تحصر سلاحها بالدفاع عن المنطقة وناسها في انتظار موازين قوى سياسية مناسبة قبل أن تكون عسكرية، لا لفتح جبهات انتحارية نرى إلى أين أوصلتنا في غزّة وفي لبنان.