كازاخستان وروسيا و"الحدائق الخلفية"
لا يمكن فصل ما يجري في كازاخستان، مما يمكن اعتباره انتفاضة شعبية، عن حالة التجاذب القائمة منذ فترة بين الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وروسيا، ولا سيما في ما يخص الوضع في أوكرانيا، ومحاولة الدول الغربية إدخال كييف إلى حلف شمال الأطلسي، وهو ما اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لمصالحها. حالة التجاذب هذه لم تقتصر على التصريحات السياسية، بل تطورت إلى تهديدات عسكرية متبادلة بين موسكو وواشنطن، فروسيا لم تتوان عن التلويح باجتياح أوكرانيا، وهوما ردت عليه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بتهديدات عسكرية ورفع عصا العقوبات الاقتصادية.
حالة الأخذ والرد في الشأن الأوكراني لم تتوقف بين روسيا والغرب، فالطرفان يريان في البلد مساحة استراتيجية في صراع ما بعد الحرب الباردة، والتي تجدّدت في السنوات الأخيرة. موسكو لا تزال ترى في أوكرانيا إحدى الباحات الخلفية لامتداداتها الجيوسياسية، وخط دفاع أوّلياً في مواجهة الدول الأوروبية خصوصاً، والتحالف الغربي في العموم متمثلاً بحلف شمال الأطلسي. والأخير يرى الأمر نفسه، خصوصا بعد محاولات احتواء أوكرانيا في مرحلة الضعف الانتقالية التي مرت فيها روسيا بعد سقوط المنظومة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي.
اليوم يبدو أن كازاخستان ستكون عنواناً جديداً للصدام الروسي الغربي. فالبلاد تعد من أهم الامتدادات السياسية لروسيا الاتحادية التي لم تتوان عن اعتبار ما يجري هناك محاولة غربية لضرب النفوذ الروسي، وهو ما بدا أن موسكو تتعامل معه بحزم، عبر إرسال ما تسميه "قوات حفظ السلام" إلى المناطق التي تشهد احتجاجات في كازاخستان. وهي تعاملت مع الاحتجاجات هناك تماما كما تعاملت، وما زالت، مع التحركات المعارضة في سورية.
وللمفارقة فإن أوجه شبه كبيرة قائمة بين وضعي كازاخستان وسورية، ولا سيما في البدايات. فالاحتجاجات التي قامت في كازاخستان ضد رفع أسعار الوقود، ما لبثت أن تحولت إلى تحركات معارضة لحكم الفرد الذي رسخه نور سلطان نزارباييف، والذي يستكمله الرئيس الحالي قاسم جومرت توكاييف. وعلى نسق التعامل السوري في البداية مع الاحتجاجات عبر نعت المتظاهرين بالإرهابيين والمندسين، فإن السلطات الكازاخية سارت على الدرب نفسه، وجاهرت بالقتل، عبر الأوامر التي أصدرها جومرت توكاييف بإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين.
ومن الواضح أن التدخل الروسي السريع في الحالة الكازاخستانية، هو محاولة لمنع تدحرج الأوضاع إلى ما يشبه الحالة السورية، وقطع الطريق على أي فكرة تدخل غربي لدعم الحركة الاحتجاجية، سواء سياسياً أو عسكرياً، خصوصاً في ظل ما تمثله كازاخستان لروسيا، سواء لجهة الحدود المباشرة الطويلة التي تجمع البلدين، أو الخيرات الطبيعية الكثيرة التي يستفيد منها الدب الروسي. كما أن موسكو تتخوف من أي فوضى جديدة في حدائقها الخلفية وجوارها ولدى جيرانها، لأنها قد تهدد نفوذها في المنطقة، كما حصل في أوكرانيا عام 2014 وبيلاروسيا في 2020.
ورغم أن الوقت ما زال مبكراً للحكم على مسار الأمور، إلا أنه من المتوقع أن الوجود العسكري الروسي في البلاد سيكون طويل الأمد، وخصوصاً أن التدخل يتم تحت عنوان "قوات حفظ السلام"، التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي ائتلاف مكون من حلفاء موسكو، يشبه إلى حد ما تحالف شمال الأطلسي. وهذه التجربة الخارجية هي الأولى لهذا التحالف، لذا فإن موسكو تحرص على أن يكون وجودها ظاهراً وفعالاً باعتباره تجربة لتدخلات أخرى قد تحصل، في حال تطور الوضع الأوكراني إلى ما لا تحمد عقباه.
ورغم أن الغرب لا يزال بعيداً بشكل مباشر عن التدخل في الوضع الكازاخستاني، إلا أن موسكو تسعى إلى أن يكون تدخلها هناك رسالة تحذير من "اللعب في الحدائق الخلفية" لروسيا.