كسر عقد التفويض
في مثل هذا الوقت قبل عشر سنوات، طلب وزير الدفاع المصري في ذلك الوقت، الفريق عبد الفتاح السيسي، من المصريين تفويضًا لمواجهة ما أسماه "الإرهاب المحتمل"، أو كما قال في كلمة أمام حفل تخرج لطلاب من أكاديميتين عسكريتين "إن الجيش والشرطة يحتاجان إلى تفويض لمواجهة أي عنف أو إرهاب خلال الفترة المقبلة".
حدث ما حدث وتواطأت بعض النخب المحسوبة مدنية، أو تورّطت في إخراج مشهد التفويض الذي لا يزال مستخدمًا، إذ يُشهره وزير الدفاع الذي صار رئيسًا للدولة في وجه كل من يطلب التغيير أو يبدي تململًا من الوضع الراهن، على الرغم منه أنه شدّد غير مرّة على أنه لا يطمع في الحكم، بل أنه قبل التفويض بأيام تعهّد عبر الصفحة الرسمية للمجلس العسكري على موقع "فيسبوك"، وعلى لسان "أدمن الصفحة"، بأنه لن يرشّح نفسه لانتخابات الرئاسة، حيث قال نصًا "أن بعض وسائل الإعلام تداولت ما يُشير إلى احتمالية أن يرشّح القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح السيسي، نفسه للرئاسة، وهذا الطرح عارٍ تماماً من الصحة، ولا يستند إلى أي حقيقة ثابتة، ولم يحدُث أن سبق الإشارة إلى هذا من القائد العام أو من أي مسؤول بالقوات المسلحة".
بعد عشر سنوات، ينطق الواقع بأن ورقة التفويض قد بليت، أو أكلتها زفرات الغضب والألم المنبعثة من صدور أرهقتها منظومة متكاملة من القمع والفقر وانعدام الأمل في أية إمكانية للخروج من كهف مظلم لا يعرف أحد بابًا آمنًا للخروج منه، ويمكن الزعم هنا إنه لو أجرت جهةٌ علميةٌ محايدةٌ ومحترمةٌ استطلاعًا نزيهًا وآمنًا لرأي الجماهير ستكون النتيجة أن الغالبية الكاسحة ستعلن سحب تفويضها الصوري لشخص انفرد بجميع السلطات، الأرضية، بل وادّعى لنفسه سلطات سماوية كذلك. بحّت الأصوات وقتها تقول إنها دعوةٌ رسميةٌ إلى الانتحار الجماعي والقفز في أتون حريق قومي شامل، ينشطر معه المجتمع نصفين، أحدهما الطيّب الذي يؤيد السلطة المدجّجة بالسلاح، والآخر الشرّير الذي كان يعارض إطاحة رئيسٍ منتخب انتخابًا حرًا، غير أن قطاعًا ممن كان يفترض أنهم يمتلكون الحدّ الأدنى من الرؤية المستقبلية، ومؤهّلون لتوعية الجماهير بخطورة تلك القفزة المجنونة، استسلموا لنوازع الإقصاء والانتهازية، ومنهم من تقمّص شخصية "الشبّيح الليبرالي" وهتف "فوّضناك"، بل منهم من لم يتمالك نفسه وهو يتمنّى رؤية خصومه السياسيين مقيدين بالسلاسل، ويستمتع بالمشاهدة والمشاركة في حفلات تعذيبهم.
نعم، كان أسوأ ما فعله المجتمع السياسي المصري في نفسه أنه وافق، مدفوعًا بغرائز الاقتناص والانتهازية وروح الشماتة، على أن يضع، بنفسه، حول رقبته، تلك المشنقة الفاخرة التي تخنق الجميع الآن، خصوم الإخوان قبل الإخوان، لتكون عبارة "مشاركة جماعة إرهابية تحقيق أهدافها" السمّ الذي تواطأ الكلّ على تصنيعه، ثم تجرّعوه لاحقًا، جبرًا وإكراهًا.
تنطق المعطيات الآن بتآكل رقعة التواطؤ مع سلطة القمع في الداخل، إذ يبكي بعض الذين صمتوا على تمرير تلك الحالة، بمبرّرات شديدة السذاجة من عيّنة "الميدان موجود" يبكون ألمًا من العشرية الأسوأ في مجال حقوق الإنسان، من دون أن يملك أحدٌ منهم شجاعة الاعتذار عن تورّطه في صناعة ذلك الحريق المستعر، الذي تقلّصت وابتذلت واختزلت فيه قضية حقوق الإنسان إلى أن يصبح المطلب هو الحرّية للمشتغلين في مجال حقوق الإنسان، الذين وجدوا أنفسهم بعد هذه السنوات مهدّدين في حرّيتهم وأمنهم وحياتهم، على نحو لا يدع مجالًا للكلام عن حقوق المواطن العادي، أو حتى السياسيين المنسيين في السجون منذ العام 2013 من دون أن يتذكّرهم أحد.
عشر سنوات أظنها كافية لكي تدرك كل الأطراف أن لا تنمية ولا استقرار من دون عدالة تشمل الجميع، وخروج طوعي من هذه الحالة العنصرية التي تخنق الجميع.