كل أولئك الشوام في مصر
وصل الكتابُ إلى لوسيل من ألمانيا، وبسبب خطأ ما، عاد من حيثُ أتى، ثم انتظر أن يُستضافَ صاحبُه، أستاذُنا وصديقُنا، فارس يواكيم (78 عاما)، في الدوحة، ليصير بين يديّ، بإهداءٍ نمَّ عن روحٍ عالية الرهافة، في السيناريست والمسرحي والإذاعي والمترجم، والذوّاقة والراوي من قبلُ ومن بعد، الذي لا تستقيم متوالية صفاته المستحقّة هذه من دون أن تنضافَ إليها، أو تتصدّرها، أنه الباحثُ المؤرّخ. وكتابُه التائه العائد "الأسراب الشامية في السماء المصرية" (ميريت، القاهرة، 2022) شاهدٌ على صفتيْه هاتين، كما غيرُ كتابٍ سابقٍ له، مثل الموصول به "ظلال الأرز في وادي النيل" (الفارابي، بيروت، 2009)، مع التخفّف، فيه، من المنزع المحض أكاديمي، ليأتي الكتابُ، باسترسالٍ شائق، في صفحاته التي زادت عن الخمسمائة، على سيرٍ لمئاتٍ من الشوام، اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، الذين وفدوا منذ مطالع القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين (وبعدَه أحيانا)، إلى مصر، وأقاموا، فصارت لهم فيها أدوارٌ رياديةٌ وتأسيسيةٌ كبرى في الصحافة والنشر والمسرح والسينما، في صناعات هذه القطاعات وإنتاجاتها، في بناء مؤسساتٍ كبرى ما زال بعضُها قائما. تقصّى فارس يواكيم كل حضورٍ لهم ولأبنائهم (عمر الشريف، ...) وأحفادهم، في كتابه الذي يجوزُ وصفُه موسوعيّا، والذي يختلف عن كتبٍ سبقته، اعتنت بأولئك الشوام، وانشغلت بمنجزاتهم ومشاغلهم وإبداعاتهم، بأنه جاء أوْفى وأكثر إحاطةً بتفاصيل التفاصيل، بإيجازٍ أحيانا وبغير إيجازٍ أحيانا أخرى. فضلا عن أنه يوفّر ثبْتا في نحو مائتي صفحة لما يسمّيه "قاموس الأعلام"، غير مسبوقٍ في شموليّته وفهرسته ومعلوماته، يأتي على نحو ألف اسمٍ من أولئك "الشوام" الذين تقاطروا إلى مصر، من لبنان وسورية وفلسطين (وغالب هلسا من الأردن)، وبعضُهم ولد فيها، ومنهم من أقاموا فيها عقودا أو سنواتٍ ثم غادروها، غير أن الأهم في استعراض ما صنعوه وأنجزوه وتألقّوا فيه أن الكتاب يضيءُ على تجاربهم، وما مرّت بها من نجاحاتٍ، أو ما تعرّضت له من إخفاقات، وما أتى على مؤسّسات بنوها وأقاموها من تأميمٍ في الزمن الناصري.
الممثلة المسرحية الصحافية فاطمة اليوسف التي صار لها اسمُها الأشهر "روز اليوسف"، اللبنانية المولودة في طرابلس (1898)، والدة إحسان عبد القدّوس، زوجة زكي طليمات في إحدى زيجاتها الثلاث، مؤسّسة المجلة الشهيرة التي ما زالت تحمل اسمها، منذ إطلاقها مجلةً فنية في 1926. سليم تقلا، اللبناني المولود في بلدة كفرشيما (1849) مؤسّس صحيفة الأهرام العريقة مع أخيه بشارة تقلا، والتي ظلّت لأسرتهما وأبنائهما وأحفادهما عقودا. نجيب متري المولود في لبنان، الذي هاجر إلى مصر في 1884، مؤسّس دار النشر القاهرية الشهيرة، دار المعارف، الباقية، والتي تألّق شقيقُه شفيق متري في تطويرها وتقدّمها. جورجي زيدان المولود في بيروت (1861) مؤسّس مجلة الهلال التي أصدر عدَدها الأول في 1892، والتي تطوّرت في مؤسسةٍ إعلاميةٍ عريقةٍ ناجحةٍ بفضل جهود نجليه إميل وشكري، وآلت إلى الدولة المصرية عند تأميمها في 1960. محمد حسني البابا، الخطّاط السوري المولود في دمشق (1894)، انتقل إلى القاهرة في 1912، الأستاذ في المدرسة الملكية لتحسين الخطوط في القاهرة في عهد الملك فؤاد، والد سعاد حسني ونجاة الصغيرة. الأخوان لاما، المخرج إبراهيم (1904) والممثل بدر (1907)، الفلسطينيان اللذان أنتجا في 1927 أول فيلم روائي صامتٍ في السينما المصرية "قبلة في الصحراء"، وأخرج إبراهيم 27 فيلما، قبل أن يموت منتحرا في 1953، فيما أدّى بدر أدوار بطولةٍ مع فاطمة رشدي وأمينة رزق وشادية وفاتن حمامة، قبل وفاته في 1947. ...، ... إلخ.
أبقى دائما أكتبُ وأقولُ إن كل إيجازٍ مخلّ، وكتابٌ ثمينُ الأهمية، كما الذي أنجزه فارس يواكيم وأهدانيه، عصيٌّ على الإيجاز، وليس هذا وظيفة هذه المقالة، وإنما دعوةُ جمهور القرّاء إلى التجوّل في أفيائه الشامية في مصر التي أتاح حكّامها ونخبها وتجّارها وعموم ناسها الفرص لآلافٍ طموحين، ضاقت بهم بلادُهم في الشام، لم تيسّر مساحاتٍ لتطلعّاتهم، فاستقبلتهم فضاءاتُ مصر، ليتوزّعوا فيها ناشرين وصحافيين ومسرحيين (مارون نقاش وسليم نقاش وأبو خليل القباني وبديعة مصابني و...) ومنتجي ومخرجي سينما (جبرائيل تلحمي، عزيز عيد،...) ومغنّين (شاكر الحلبي، فايزة أحمد، أسمهان، ...)، وأصحاب مطابع (أحمد البابي الحلبي، ...)، "حملوا معهم براعم تفتّحت ورودا في مصر"، على ما صحّ قول فارس يواكيم الذي كان بحّاثةً مُجدّا في كتابه التحفة. اقرأوه وافرحوا به.