كل هذه الأزمات في الكويت
ربّما فوجئ بعضهم بقرار أمير الكويت، مشعل الأحمد الجابر الصباح، حلّ مجلس الأمّة (البرلمان)، الذي لم يمضِ سوى شهرٍ وبضعة أيام على انتخاب أعضائه في الانتخابات المُبكّرة التي أُجريت في 4 إبريل/ نيسان الماضي، لكنّ القرار يتّسق مع ما شهدته الحياة السياسية في الكويت في السنوات الماضية، إذ أضحت تعيش على وقع معادلة تَكرّر فيها حلّ مجالس الأمّة، مقابل تكرار إجراء انتخابات مُبكّرة. لكن قرار حلّ المجلس، هذه المرّة، ترافق مع إصدار قرارات، تقضي بإيقاف العمل ببعض مواد الدستور جزئياً أو كلّياً، في خطوة هي الثالثة، منذ تدشين الحياة البرلمانية في الكويت عام 1962.
جاء قرار الحلّ قبل أيام قليلة من موعد افتتاح أعمال المجلس، وتَعذّر تشكيل حكومة كويتية جديدة، بعد أن رفض مجلس الأمّة التعاون مع رئيس الوزراء المُكلّف، في ظلّ عدم موافقة أحد أعضاء المجلس المشاركة في الحكومة، وهو ما يسمّى الوزير المُحلّل، ويكون وزيراً ويحتفظ، في الوقت نفسه، بعضويته في المجلس، بحسب ما ينصّ عليه الدستور. إضافة إلى أنّ نواباً طالبوا بإلغاء تكليف رئيس الوزراء، وتكليف غيره، وهو ما اعتُبر إنقاصاً لصلاحيات الأصيل أمير البلاد وحقّه. غير أنّ السبب المباشر هو ما اعتبر تعدّياً على صلاحيات أمير البلاد، وارتكاب مخالفة صريحة لما ينصّ عليه الدستور، وتجسّدت، بحسب ما أكّده الأمير نفسه، بالتهديد والوعيد، الذي صدر عن أحد أعضاء المجلس "بتقديم الاستجواب لمُجرّد أن يعود أحد الوزراء إلى حقيبته. وآخر اعترض على ترشيح البعض الآخر متناسياً، جهلاً أو عمداً، أنّ اختيار رئيس الحكومة وأعضائها حقّ دستوريّ خالصٌ لرئيس الدولة، ولا يجوز لأحد اقتحام أسواره أو الاقتراب من حدوده أو التدخل في ثناياه".
أفضت الأزمة السياسية إلى سلسلة متتالية من الإرباكات والأزمات التي عصفت بالكويت على مختلف الصُّعد
يعيد حلّ المجلس تسليط الأضواء مجدداً على تناقضات المشهد السياسي الكويتي، من ناحية أنّه يعيد أزماته إلى المربّع الأول، ويفتح باب النقاشات حول حجم التغيير المُتوقّع إذا ما تمّت الدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة، لأنّ تكرار حلّ المجلس واستقالة الحكومة يشيران إلى ضرورة إعادة النظر في الآليات والمُمارسات المُتّبعة في النظام السياسي، وتحديداً، في طبيعة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبما يفضي إلى تحقيق اختراق في العلاقات المأزومة بينهما. لقد أفضت الأزمة السياسية، التي زادت حدّتها في الآونة الأخيرة، إلى سلسلة متتالية من الإرباكات والأزمات التي عصفت بالكويت على مختلف الصُّعد، وزادت حدّتها نتيجة ارتفاع وتيرة الخلافات والصراعات المستمرّة بين الحكومات التي يُعيّنها أمير الكويت والبرلمانات المُنتَخَبَة انتخاباً مباشراً، الأمر الذي ألقى ظلالاً قاتمة على الحياة السياسية في الكويت، وأعاق مساعي الإصلاح الاقتصادي، وسبّب تعطيل مشاريع تنموية يحتاج إليها الكويتيون، وساهم في فشل محاولات تنويع الاقتصاد الكويتي، المُعتمِد كُلّياً على عائدات النفط.
المشكلة في الكويت أنّ الدستور يقضي بتشكيل حكومة مُختلَطة تجمع بين خصائص ديمقراطية وأخرى سلطوية
ما يسجّل، هذه المرّة، أنّ الأمر لم يتوقّف عند حلّ مجلس الأمة، بل رافق ذلك إصدار قرارات قضت بإيقاف العمل ببعض مواد الدستور، الأمر الذي يثير كثيراً من التكهّنات بشأن مستقبل الأزمة السياسية المُزمِنَة في البلاد، ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا بعد حلّ أمير الكويت مجلس الأمة مُجدّداً؟ وهل ستتم الدعوة إلى انتخابات جديدة في المدى المنظور، أم سيستمر حلّ المجلس إلى حين إتمام "دراسة الممارسة الديمقراطية في البلاد"، وعرضها على الأمير "لاتخاذ الخطوات المناسبة"، التي يمكنها الحيلولة دون تكرار عملية حلّ مجلس الأمة ثم إعادة انتخابه؟ ذلك أنّ الكويت شهدت في السنوات الماضية تكراراً لهذه المعادلة، وكانت حصيلتها صفرية، بمعنى أنّها لم تنتج شيئاً مُختلفاً في العلاقة المأزومة بين الحكومة والمجلس. المشكلة في الكويت أنّ الدستور يقضي بتشكيل حكومة مُختلَطة تجمع بين خصائص ديمقراطية وأخرى سلطوية، ويتبنّى نظاماً يتكوّن من مزيج عناصر من النظام الرئاسي والنظام البرلماني، ضمن توافق مُثير وعجيب. ويُلزم نصُّ الدستور بالدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة خلال شهرين من تاريخ إصدار قرار حلّ البرلمان، وعليه، فإنّ المرحلة المقبلة ستكشف ما إذا كان أمير الكويت سيقرّر الذهاب مُجدّداً إلى إجراء انتخابات جديدة، أم أنّه سيركّز على تعديل مواد الدستور، بما يجعله وثيقة تستجيب لمتطلّبات الحياة ومتغيراتها عبر انسجامه مع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية السائدة في المجتمع، وتتوافق مع الظروف المُستجدّة في قدرته على استيعابها ليكون منفذاً له في الاستمرار أداةً تحكم واقع المجتمع وتكويناته، وبما يضمن تغيير بعض مواده لتجاوز الإشكاليات القانونية التي سبّبت الأزمة السياسية، وهو أمر يتطلّب، إلى جانب موافقة الأمير، موافقة ثلث أعضاء مجلس الأمّة أيضاً.
اعتبر أمير الكويت أنّ اضطراب المشهد السياسي في البلاد وصل إلى مرحلة لا يمكن السكوت عنها
ربّما تحمل القرارات الصادرة مُؤشّراتٍ على أنّ الأزمة السياسية في الكويت، والتي تصاعدت حدّتها في العامين الأخيرين، تتجه نحو التهدئة والتليين، في ظلّ إجماع على ضرورة حلّها، وليس مداراتها، لأنّها أضرّت بمصالح البلد وناسه، وعطّلت استحقاقات عديدة، كان من المفترض أن تقوم بها كلتا السلطتيْن، إذ ترتبط المشكلة المُلازمة لهذه الأزمة بإصابة الكويت بحالة من الشلل في مختلف المجالات، السياسية والاجتماعية والقانونية، التي تعطّل اتخاذ قوانين مطلوبة، وسنّ أخرى جديدة، من أجل تسيير حياة الناس وتلبية احتياجاتهم، فضلاً عن النظر في قضايا الدولة، خاصة المُلحّة منها، مثل هدر المال العام واستشراء الفساد والعصبوية والتطرف، وسواها.
اللافت أنّ أمير الكويت اعتبر أنّ اضطراب المشهد السياسي في البلاد وصل إلى مرحلة لا يمكن السكوت عنها، وأنّ الأجواء المأزومة التي عاشتها في السنوات السابقة شجّع على انتشار الفساد، ليصل إلى أغلب مرافق الدولة، بل وصل إلى المؤسّسات الأمنية والاقتصادية، ونال حتّى من مرفق العدالة، الذي يُعتبر ملاذ الناس من أجل صون حقوقهم وحرّياتهم. كما أشار إلى وجود شخصيات مُتّهمة بالفساد، وتوعّد بمحاسبتها، مع تأكيده أنْ لا أحد فوق القانون، لأنّ القانون فوق الجميع، ومن ثم، هل تشهد الفترة المقبلة بدايةَ مرحلة مختلفة في الكويت؟