كوميكسات الدولة المصرية
لم يكن مفاجئا أن يتدخّل عبد الفتاح السيسي في وقت مبكّر، وقبل اعتلائه الرسمي الدولة المصرية، لوقف برنامج باسم يوسف، وتكليف مدير مكتبه عبّاس كامل بالتواصل مع السعوديين (كما سمعنا بآذاننا في تسريب)، وإبلاغهم بانزعاج السيسي من البرنامج ومادّته على شاشة "إم بي سي" السعودية، (وبالمناسبة كان ذلك الموسم من برنامج البرنامج الأقوى رغم عدم اكتماله). بات من المقرّر، والمعلوم بالضرورة، أن أي محاولة اقترابٍ "جادّة" من الشأن المصري، الآن، أو بالأحرى منذ "إنتو ما تعرفوش إنكم نور عنينا ولا إيه؟!"، تبدو باهتة، وعبثية، وأحيانا كوميدية أيضا، وإن لم يستهدف أصحابها ذلك أو يقصدونه. إذ إن تصريحات الرئيس (الذي يتميّز، أحيانا، بصراحة ووضوح نادرين)، لم تترك فرصةً للمحلّلين السياسيين، أو الإعلاميين، أو الصحافيين، أو المشايخ، ناهيك عن الأجهزة الأمنية وأذرعتها، أن يتحدّثوا بشكل جادّ، داعم للرئيس أو ناقد له، معه أو ضده، أي كلام من مربّع الجد يتحوّل مع التمادي في جدّيته إلى كوميديا، شاء صاحبه أم أبى، فالمادة لا تمنح من ينحت بها أو منها سوى الكوميديا السوداء، والضحك حتى البكاء، ويبدو لي أن السيسي، طوال رحلة صعوده الوظيفية مع الدولة المصرية، تعرّض لذلك كثيرا من رؤسائه، كما أشار بنفسه في واقعة "النتن والدبّوس والأستيكة". ولذلك لم يكن السيسي ليسمح بتكرار ذلك على يد باسم يوسف أو غيره بعد أن صار رئيسا.
يحترف المصريون النكتة بشكل عام، والنكتة السياسية بشكل خاص، ثمّة كتب ودراسات وبحوث عن نكات المصريين السياسية عبر العصور، وقد عبّر جمال عبد الناصر، في خطاب شهير، عن انزعاجه من بعض النكات التي أطلقها المصريون بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وقال إنه يتفهم أن هذه هي ثقافة المصريين، لكنه يرجو "التخفيف"، ولم يفُته طبعا ربط النكتة بالمؤامرة. أما أنور السادات فكان "ابن نكتة"، إلى درجة أنه يتعقّب النكات عنه، ويسمعها، ويضحك عليها، وورث حسني مبارك عنه ذلك، وشاع أن يسأل أحد أقرب رؤساء تحرير الصحف القومية له عن الجديد في النكات عنه وعن أسرته، ويضحك ملء فمه، فلماذا توقّف المصريون عن تأليف نكات عن السيسي؟ الأسباب كثيرة، وأبرزها، في تقديري، أن النكتة وحدها لم تعد كافيةً للتعلية على تصريحات فخامة الرئيس، فهي في حد ذاتها نكاتٌ عبقرية.
وإذا كانت الكوميديا، في أبسط تعريفاتها، هي كسر المنطق، فالرئيس السيسي "جاب جلطة" للمنطق، وانتهى منه، وصار الأمر يستلزم تجاوز الخيال الشعبي البسيط إلى آخر أكثر تركيبا، يعتمد الكتابة، والصوت، والصورة. من هنا، زاد الطلب على السخرية السياسية، وباتت الكوميكسات، تحديدا، اللغة السياسية الأكثر انتشارا، والأكثر قدرةً على تفادي الرقيب، خصوصا لو كان صاحب الكوميكس خارج مصر، وباتت السلطة تتعقّب الساخرين، لا لتسمعهم وتضحك بثقة، كما في حالتي السادات ومبارك، ولا حتى لتبدي انزعاجها من المؤامرة على مصر بالنكتة كما في حالة عبد الناصر، ولكن لتستخدم كل إمكاناتها في منعهم، بالتنسيق مع حلفاء سياسيين، كما في حالة باسم يوسف، أو الوصم والتشهير وتلفيق التهم، كما في حالة يوسف حسين (جو شو)، أو بالقبض عليهم، وإيداعهم السجون والمعتقلات بتهم ملفّقة مثل الانضمام لجماعة إرهابية وغيرها، كما في حالات كثيرة داخل مصر.
يطالب الرئيس، في تصريح له أخيرا، الآباء والأمهات بالإبلاغ عن أبنائهم إذا وجدوا لديهم أي ميول معارضة لأداء الدولة المصرية (المميّز كما نرى). ويتعهد السيسي (وهو صاحب تاريخ مشهود في الوفاء بالعهود) بأنه لن يضيّع هؤلاء الأبناء "الملخبطين"، لكنه سيعالجهم. يأتي التصريح بالتزامن مع نقاش "جادّ" داخل الحركة المدنية الديمقراطية بشأن الموقف من سجناء الإخوان المسلمين، والمطالبة بحريتهم، مثل غيرهم، يبدو أطراف النقاش (مع الاحترام والتقدير) مثل تنانين خرافية يصرُخ كل منهم في وجه الآخر، فيما يأتي دبٌّ أو جروٌ قزم، كما في الكوميكس الشهير، ويشتّتهم بعصاه.