كيف نتذكّر حافظ الأسد؟
...، ولكن، ما الحاجة إلى تذكّره؟ قد يسأل سائل، فالنهج الذي أرساه في سورية باقٍ، وتأخذُ به الدولة التي بناها، دولة الخوف والبوليس والمخابرات، أي العسفُ المطبوعُ بانعدام الحساسية في ممارسة القتل، انتقاما وغير انتقام، مع بعض الحقد إذا أمكن، عند التعامل مع أي سوريين فيهم أنفاسُ اعتراضٍ أو معارضة. وبذلك، إن فاضت روحُه فمات في مثل يوم أمس قبل 22 عاما، فهذا لا يعني أنه لم يعُد حاضرا، بل ربما يصحّ القول إنه ما زال يحكُم سورية، وإنْ هو جثةٌ في قبر في القرداحة، فالذي ضرب حماه بمدافع وقذائف، وحاصرَها وجوّعها، وقتل من أهلها وساكنيها نحو 20 ألفا (أو 25 ألفا؟)، بغرض قتل نحو ثلاثمائة من "الإخوان المخرّبين"، هو ذاته الذي يضرب مضايا وحمص وأرياف دمشق وحلب ودرعا وما شاء من بطاحٍ سوريةٍ أخرى، فيزهق من أرواح الناس ما لا يكترث بعدّهم، ويقذف مدارس وكنائس ومساجد ومستشفياتٍ بما أبدعه من براميل متفجّرة، بزعم إنه يواجه إرهابيين. إذن، يسترسل السائل نفسه، لا مدعاة إلى تذكّر الوالد، فالولَد سرُّ أبيه، ويستأنف، بهمّةٍ مثابرةٍ، ما كان يؤدّيه أبوه، وما كان سيؤدّيه إذا هتفت حناجر في درعا أولا بما هتفت به في تلك الأيام من ربيع 2011، وإذا ما خرج سوريون غيرُهم في شمالٍ وجنوبٍ وغربٍ وشرق، وصاحوا الصيحات نفسها. والناس لا يتذكّرون، عادةً، من بين ظهرانيهم، بل الغائبَ والبعيد. وثورة السوريين لم تقدِر بعدُ على إطاحة الرئيس الأب، وإنْ أمكن لها أن تخرّب تماثيل على هيئتِه من بازلت ونحاسٍ وحديدٍ في غير مطرح.
ولكن قولا آخر على وجاهةٍ، قد يمضي إلى مجرىً مختلف، أن سورية الراهنة لم تعد هي التي هندسَها الأب المتحدّث عنه. بالطبع، لم تمض إلى تمدّنٍ وتحديثٍ وعصرنةٍ ودمقرطةٍ وتطوّرٍ وتقدّمٍ وتنميةٍ، على غير ما كانتْه، بل إلى تفكّكٍ واهتراءٍ وتآكلٍ وانكشافٍ وتذرّرٍ على النحو الذي نرى، فليس الجيش جيشا، ولا أجهزة المخابرات والبوليس أجهزة دولةٍ قمعيةٍ من النوع المعهود، وإنما عصاباتٌ متضامّةٌ مع بعضها، لحماية نفسِها وعناصرها وأذرعٍ لها يُجاز لها قتل من في الوسع قتلهم، في حي التضامن وغيره. أما سلطة الدولة، ممثلةً بالرئيس وحكومته وشرطته وأجهزته، فتنبسط على أقلّ من 20% من البلد، على ما "يبحبحها" عارفون. ثمّة أميركان وروسٌ وأتراكٌ وإيرانيون و"قسد" و"مسد" وجيش إسلامي وجيوش غير إسلامية ومصنوعاتٌ إرهابيةٌ تحكُم وترسمُ في نواحٍ سورية غير قليلة. وبالتالي، لم تعد قائمةً تلك الدولة التي لم يكن في وسع نملةٍ أن تتسلّل إليها، من شدّة يقظة مؤسّساتٍ تتربّص وترصُد وتراقب، وتستنطق الداخل إليها والخارج منها عمّا كان يهمس به والداهما وجدّاهما في غير شأن. إذن، دالت دولة الرئيس الأب ثم زالت، أو، من باب احتراسٍ موضوعيٍّ، بقي منها الحُطام الذي يجعل الابن يقيم في قصر المهاجرين رئيسا، وينجح في انتخاباتٍ يُجريها، الحُطام الذي يُبقي الإيرانيين مقيمين على ما عاهدوا أنفسَهم عليه، أنهم في سورية يحمون دولةً، يصونونها من الإرهاب وإسرائيل والولايات المتحدة.
من قال إن الرئيس النائم في قبره في القرداحة كان رئيسا سوريّا وحسب؟ كان زعيما عربيا، رقما مطروحا في مسألة الحرب والسلام في المنطقة. كان ضابط الإيقاع الذي أنقذ لبنان من مخطّطات انعزاليين ورجعيين أرادوا حلا إسرائيليا في البلد. فعلَ ما وسعه أن يفعل من أجل إبقاء لبنان عربيَّ الوجه والوجهة، وإبقاء سورية ظهيرا له. لقد تمنّى شيمون بيريز أن يصافح فاروق الشرع، لكن الرئيس لم يحقّق له هذا، والسبب أن إسرائيل لم تقدّم ثمنا كافيا لخطوةٍ كهذه. وعلى هذا، بقيت سورية في منأى من عبث التطبيع الذي ذهب إليه ياسر عرفات والملك حسين، وقبلهما أنور السادات، وبعدهما من بعدهما. وهذا كله، لبنانيا وعربيا، وسوريّا من قبل ومن بعد، يجعل للرئيس مقاما آخر، يحسُن أن يُتَذكَّر به. ولكن هذا كلامٌ أجوفُ من نواحٍ غير قليلة، وإنْ يرى فيه بعضُهم ما يُحسَب من شمائل كان صاحبهم هذا عليها، وهذه لم تُحرِز نصرا ولا أنجزت تحريرا ولا أعادت أسيرا ولا استغنت عن الصليب الأحمر ليأتي تفاحٌ من الجولان إلى دمشق، وإنما نكبت السوريين بخرافات التوازن الاستراتيجي وأزعومات الصمود والتصدّي الخائبة، وسرّعت أوبةَ سورية إلى القهقرى، فكان من النواتج مطعمٌ روسيٌّ للونا الشبل في دمشق، وطلاتٌ لأبو محمد الجولاني مجاهدا صنديدا، وورَعٌ باهظٌ صار عليه رامي مخلوف، وشيخوخةٌ هانئة البال لرفعت الأسد في الشام.
بإيجاز، عندما يموتُ نهجُه يكون قد مات .. متى؟ لا أعرف.