كيف يتحوّل إنسان طبيعي إلى "شريف منير"؟
كان توفيق عكاشة مذيعا في التلفزيون المصري، واشتغل في برامج حوارية، وفق معايير "ماسبيرو". شاهدته بنفسي، لم يكن يتحدّث بلهجة ريفية، يتعمّد صاحبها أن يبدو في صورة القروي الساذج. واعترف عكاشة، بعد انقلاب يوليو 2013، في حوار مع الإعلامي خالد صلاح، بأن طريقة تقديمه برنامجه على فضائية "الفراعين"، كانت بالاتفاق مع أجهزة الدولة، نظرا إلى طبيعة المرحلة (ثورة يناير وما بعدها)، وحاجة هذه الأجهزة لتجييش طبقاتٍ بعينها، تشكّل أكثر من خمسين بالمائة من الشعب المصري، ضد تجربة يناير. قبل اعتراف عكاشة، وقبل الانقلاب، لم يكن عكاشة، في أوساط الثورة المصرية، سوى مادّة للتندّر والسخرية. وحين كانت أصواتٌ تطالب بالردّ على عكاشة، بطريقته نفسها، أو على الأقل تفكيك خطابه أمام جمهوره بلغةٍ يفهمونها، (بالتوازي مع السخرية المستحقّة)، كانت ردود "النخب الثورية" تتراوح بين الاستنكار، من مجرّد طرح الموضوع، والتعالي على "أي أحد" يمكن أن يصدّق هذا الكلام الفارغ، باعتباره أقلّ وزنا وقيمة وتأثيرا، من أن نناقشه أو نرد عليه.
ظل عكاشة يظهر يوميا، ويشحن مشاهديه، ويعيد برمجتهم، وفق رؤية "جادّة"، تتبنّاها أجهزة، تعرف ما تريد، وإلى من تتكلّم. ونزل ملايين المصريين، بعد أقل من عام، ضد التجربة كلها، لأسبابٍ مختلفة، من بينها الشحن الإعلامي الذي يأتي في مقدمته عكاشة وأشباهُه، وهو ما التفت إليه باحث وأستاذ مساعد لدراسات الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد، والتر أرمبرست، في كتابه "حاوي الثورة المصرية.. دراسة أنثروبولوجية لظاهرة توفيق عكاشة".
اقتنع قطاع كبير من المصريين بما يقوله توفيق عكاشة وأحمد موسى وغيرهما، ولم يجدوا في خطابات "يناير" ما يقنعهم، أو حتى ينجح في الوصول إليهم، وليس أسهل من أن تصف هؤلاء بـ الجهلاء.. الأغبياء.. الأميين.. أو حتى عبيد البيادة. ذلك كله سهل، بقدر ما هو مضلّل، مريح بقدر ما هو شعبوي. الأصعب أن تعترف بأنك تحب البلد لكن لا تعرفها، لديك "نوايا" حسنة، لكن ليس خططا، لديك خطابات نخبوية، عميقة، لكن ليست مؤثرة، سهلٌ أن تستدعي الآية الكريمة "فاستخفّ قومه فأطاعوه"، وتهزّ رأسك. الأصعب أن تعرف: كيف استخفّهم،.. ولماذا أطاعوه؟
الخطاب نفسه نستخدمه، باستسهالٍ مرعب، حين نصف كل مؤيد للنظام بأنه ببساطة "منافق"، كل مؤيّد للإخوان بأنه "مموّل"، كل مؤيد للثورة بأنه "متآمر"، كل مؤيد للحريات الليبرالية والديموقراطية بأنه "متغرّب .. منسحق .. مهزوم". هذه "الأوصاف المعلّبة"، منتهية الصلاحية، قد تغني من جوع، لكنها، في المقابل، تمرض، وتعطل، تصيب الدماغ بالسكتة، والواقع بمزيد من التأزم، ويبقى الحال على ما هو عليه، أو يتغير إلى الأسوأ.
شريف منير هاجم فيلم "ريش"، واعتبره مسيئا لمصر، (التي يعرفها!). أغلب التعليقات تجزم بأنه منافق، يسعى وراء سبّوبة. الأمر نفسه يُستخدم مع "كل" الفنانين الداعمين للنظام، كلهم فسدة، منافقون، "سبّوبجية"، وهي خطاباتٌ تزيد من قناعات الفنانين بصحة موقفهم، وتزيد من تصديقهم كل ما تطرحه السلطة من خطاباتٍ في شيطنة معارضيها.
الفنانون في مصر، وغيرها، جزء من "صناعة ثقافية"، لكنهم ليسوا بالضرورة مثقفين. الممثل "يؤدّي"، لكنه، في الأغلب، لا يفهم، على وجه الدقّة، دلالات ما يؤدّيه، وأثره. ممثلة "شاطرة" مثل يسرا، قالت ذلك، بوضوح، عن بعض أدوارها مع يوسف شاهين. ووصفت مشاهد بعينها، في فيلم "اسكندرية كمان وكمان"، شاركت فيها مع آخرين، وقالت إن أحدا من الممثلين لم يكن يفهم ماذا يريد يوسف شاهين؟! الممثل المثقف موجود، لكنه استثنائي، وشريف منير، مثل غيره، "على قدّه"، ثقافة سمعية، ودوائر، أغلبها، سلطوية، وتعاط يومي لمخدّرات المؤامرة الكونية على مصر، وبلد مواز، بالكامل.. "كومباوندات.. وفيلات.. ومنتجعات سياحية.. ومطاعم و"كافيهات"، خاصة بطبقة بعينها، وقريبا عاصمة جديدة، قاهرة أخرى. ولذلك حين يقول إن "ريش" يعرض مصر غير التي يعرفها، فهو صادق، مغيّب، ربما، لكنه صادق، لا "مطبّل"، ولا يحزنون، والأوْلى أن نفهمه ليفهمنا، ربما نتغيّر.