كُرد سورية تائهون بعد مئوية اتفاقية لوزان
قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، اتّفق الحلفاء فيما بينهم على التوقيع على سلسلة اتفاقيات، وقرّروا فيها كيفية إشراف قواتهم على المناطق التي كانت خاضعة للعثمانيين. وفي عام 1920 اجتمعت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في سان ريمو، ووضعوا اتفاقاً جديداً بشأن آلية تقاسم منطقة الشرق الأوسط، وفي 10/7/1920، وقّعت قوى التحالف وممثلو الحكومة العثمانية في قرية سيفر قرب باريس معاهدة، جرى بموجبها فصل لبنان وسورية (الشام) والعراق وإزمير عن الدولة العثمانية. علماً أن اتفاقية سيفر هي الاتفاقية الدولية التي أنصفت الكرد وقضيتهم، وقد جاء في البند 64 أنه يحقّ "خلال عام بعد هذه المعاهدة، إذا طالب الكرد في المناطق المذكورة في المادة 62 من عصبة الأمم، الاستقلال، إذا أثبتوا أن غالبية الكرد يرغبون بالاستقلال، واعترفت جمعية الأمم أن الكرد يستحقّونه"، لكن ممثلي الدول العظمى اجتمعوا مرّات عدة في لوزان السويسرية، وجرى توقيع معاهدة باسم لوزان الثانية في 24/7/1923، وسمّيت بالثانية تمييزاً لها عن معاهدة لوزان الأولى "اتفاقية أوشي" التي أُبرمت بين إيطاليا والدولة العثمانية في 18 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1912، وجرى إلغاء معاهدة سيفر، واحتفظت تركيا بموجبها بالبلاد كاملة، ولم يجر التطرّق لحقوق الكرد.
وشكّلت لوزان في عقل (وذاكرة) الكرد، وكثير غيرهم من الأقوام، إبادة موجودة في الاستراتيجية الغربية. ففي وقتٍ حازت تركيا الاستقلال والاحترام على المستوى الدولي، فإنّ مجموعتين (شعبين آخرين)، الكرد والعرب، انقسما بين دول عدّة، حيث عانى العرب من كثرة الدول، في حين عانى الكرد ولا يزالون يعانون من غياب أي دولة. ولتبرير ذلك قدّم مبعوث كليمنصو الخاص إلى الشرق، روبير دوكي، تبريراً شرعياً لعملية التقسيمات تلك، بالقول "السلام في العالم سيكون مكفولاً بشكل أفضل لو قامت في الشرق دول صغيرة عدة، تقع العلاقات فيما بينها تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا، فتدير نفسها بالقدر الأكبر من الحكم الذاتي الداخلي، ولا تحمل النزعات العدوانية التي تتسم بها الدول القومية الموحدة الكبيرة" (حميد بوزارسلان: "قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط"). تلك كانت حقبة حملت مرارة للكرد وغيرهم من الأقوام على طول خطوط الجغرافية المقسّمة، ولا تزال تداعيات تلك الاتفاقيات مستمرّة.
كبرت دائرة الشك وخوف الكردي، خصوصاً فئة الشباب من مستقبلهم
لذلك توجّهت غالبية شرائح المجتمع الكردي، المنخرطة في الشأن العام، وحتى وقت قريب، إلى قراءة معاهدة لوزان بأنها مؤامرة تركية تجاه القضية الكردية، وأثرت بشكل رئيس في مصائر الكرد في الدول الأربع. بيد أن الجزء الآخر من الحقيقة أنه ما كان لكمال أتاتورك من إمكانية فرض قوته على المؤتمرين في لوزان، وتغيير بنود معاهدة سيفر، لولا إدراك دول التحالف أهمية الموقع الجيوبوليتيكي لتركيا، ودورها في رسم السياسات العامة للمنطقة كلها. فنظمّت لوزان آلية تفكيك الإمبراطورية العثمانية/الجمهورية التركية وتركيبتها، ولعبت دوراً تاريخياً شبيهاً بما لعبته معاهدة "وستفاليا" عام 1648، والتي أنتجت بشكل قانوني وسياسي مفهوم الدولة القومية على قاعدة "الأمة – الدولة"، حيث رسمت لوزان المعالم والحدود. وبالتالي، جرى تحديد مصير سكان تلك المنطقة وفق مبدأين: تكريس الحدود المصطنعة ووسمها بالحدود السياسية الوطنية، وطرح مفهوم الجنسية المرتبط بهويّة الدولة الجديدة التي جاءت بعد المعاهدة، على أساس كونها هويّة بديلة عن الجنسية العثمانية. وحالياً، تحوّل شمال غرب سورية على سبيل المثال تدريجياً إلى ولايات أو أصبح مرتبطاً بولايات تركية، وعادت الجنسية والهويّة التركية لتحلّ عوضاً عن السورية. من جهة أخرى، يؤكّد حال المنطقة بعد مائة عام على المعاهدة بلورة أوضاع ووقائع مشابهة لفترة الاتفاقيات الدولية من جديد، فتركيا تعود إلى صدارة المشهد السياسي والعسكري في المنطقة، وتسيطر على جزء من المناطق التي انسحبت منها آنذاك. والمنطقة كلها تعيش صراعات وحروباً رغم تجميدها، لكنها في المحصلة جلبت تدخلات أجنبية شبيهة بالتي شهدتها حقبة الاتفاقيات الدولية، ويعاني الكرد، وكل السوريين، من الهشاشة والتوترات، وفقدان المصير الواضح، وغياب الهويّة السياسية والثقافية الجامعة والموحّدة، التي تحمي المكونات والبلاد من أي تشظٍّ وانقسامات جغرافية جديدة.
وبإسقاط معاني تلك الاتفاقيات وأهدافها على الواقع الكردي الخاص في سورية، وفي محاولة لفهم أسباب ديمومة شكوى الكرد السوريين، ومخاوفهم بشأن حجم الخطر الضخم الذي يُحيط بهم، نجد أن الواقع الكردي الراهن من حروبٍ وانتكاسات وخسارات سياسية وعسكرية أوجد لدى القواعد الاجتماعية الكردية مخاوف من تكرار دور المصالح الدولية بتهميش واحدة من أخطر القضايا في الشرق الأوسط وأعقدها، وتتولد قناعة مفادها بأن التآمر عليهم وعلى مصالحهم غدا نهجاً زمنياً تعاقبياً، ودوام الاضطرابات والحرب، والأخطر تمكين العنف ووضعه في سياق محلي، وكأنه أمر اعتيادي. وعدّم بلورة حل جذري توافقي وفق الحقائق التاريخية والجغرافية في البلاد، يُشرع بشكل مستديم اللجوء إلى العنف كنمط عمل سياسي، وتعامل قاسٍ مع المجتمع على امتداد الوجود الكردي في سورية. خصوصاً أن ذلك الانتداب أنتج دولاً سمّيت بالدول الإقليمية، ولم تنجح مرحلة ما بعد الاستقلال في إنتاج أي شكل من الدولة والسلطة، أو أنظمة الحكم التي تحترم شعوبها، وبل إن تلك الدول التي جرى تركيبها من هنا وهناك، وألحقت بها شعوب ومناطق جغرافية كحال الكرد وبلادهم، جرى تضمين دساتيرها واجبات المواطنة شكلياً. لكنها في صلبها قامت على هويّة أحادية تبخس من قيمة الآخر، ونظرت إلى القوميات جميعها، وحقوقها السياسية والاجتماعية، على أنهم أعداء الأمّة ولا شرعية وطنية لهم، ما تسبّب بنشأة وعي سياسي سلبي ضد تلك القوميات على مستوى الأفراد والجماعات.
توجّهت غالبية شرائح المجتمع الكردي، المنخرطة في الشأن العام، وحتى وقت قريب، إلى قراءة معاهدة لوزان مؤامرة تركيا تجاه القضية الكردية
وبقي الكرد حقول تجارب جاهزة، إما لكيل التهم، أو التشفي منهم، والقمع الوحشي. ليعود دور المخيال الكردي ويحمل أصحابه التنبؤ بمستقبل يشبه ذاكرتهم الجمعية حيال الإنكار والتغييب للأفراد والهوية والقضية الكردية. والمؤسف أن سنوات الحرب السورية شكلت عقداً جليدياً بين الكرد وباقي المكونات على امتداد الأطراف الجغرافية، في وقت كان يتوجب تقوية العلاقات أكثر. كبرت دائرة الشك وخوف الكردي، خصوصاً فئة الشباب من مستقبلهم، فالأزمات الكردية المختلفة لا تتوقف، والصراع الداخلي في أوجه، وإن أصبح بصيغة كاتم الصوت، إضافة إلى الهجرات الجماعية، والحروب العبثية، والمخاوف من قضم مزيد من الجغرافيا الكردية، وتحوّلت سيمفونية التهم الجاهزة عن الكرد من انفصاليين إلى كفرة وملحدين وعملاء وخونة، وتمرّدت المناطق العربية الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية ضدها، لا حماية دولية ولا استعداد دولي لإثارة حفيظة تركيا بشأن كل ما يطال يدها في شمال شرق البلاد، لا أصدقاء ولا حلفاء ولا جبال كردية في سورية، هكذا أصبح واقع الكرد في سورية، بعد مئة عام من الحرب العالمية الأولى، والتي رسمت الحدود السياسية للشرق الأوسط الحديث الذي يُعرف بشكله الحالي. لذا تسود قناعة في الأوساط الكردية في سورية عن تهديد استراتيجي يُلاحق القضية الكردية، مع تعرّض ديناميكيات استمرار القضية للخطر أمام التحريك الذي تشهده مناطق التماسّ بين واشنطن وموسكو، والتجييش العسكري الأميركي مع مناطق وجود القوات الإيرانية في شرق الفرات، ورغبة موسكو بعقد اجتماع بين تركيا وسورية على مستوى الرئاسات، واعتراض إيران على ذلك كونها تُفسح المجال أمام تركيا بمزيد من التغلغل، وهي تعي أن انسحاب الجيش التركي من الشمال الغربي للبلاد على المدى المنظور بعيد المنال.
أين سيقف الكرد على مختلف تياراتهم.. "قوات سوريا الديمقراطية" التي تجد نفسها أمام خياراتٍ مُرّة، فلا هي قادرة على ترك التحالف والجانب الأميركي، ولا قادرة على مواجهة روسيا، ولا يُمكنها البقاء على الحياد، والاكتفاء بمشاهدة القوات الأميركية والتحالف في صراعهم مع القوات الإيرانية في سورية، إن حصل. وضريبة التحالفات والتوازنات المحلية والإقليمية ستكون وخيمة عليها؛ نتيجة تشعّب الارتباطات والعلاقات. ولا المجلس الكردي في مقدوره التماهي مع أي اتفاق تركي سوري، ولا يملك رفاهية الرفض أو المواجهة، خصوصاً أن الكرد السوريين لا يملكون أي علاقات سياسية واقتصادية رصينة ووازنة مع بعضهم بعضاً، ولا مع دول الجوار، أو الجهات الفاعلة في الملف السوري. ومع غياب أي أفق للحل في سورية والقضية الكردية من ضمنها، ستبقى المظلومية الكردية العنوان الأبرز لسياساتهم في الألفية الجديدة، وربما تُصبح وضعاً استراتيجياً.