لأنّه لا بدّ من هوية
في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان الشاب القابع في زاوية ما من الجنوب العراقي، ومن خلال وسائل اتصال بدائية مع العالم، أساسها الجريدة والإذاعة، يستطيع أن يتخيّل نفسه جزءاً من مسيرة تحرّر عالمية، لا لشيءٍ إلا لأنه آمن بالعقيدة الشيوعية، وتراه يهتزّ طرباً لنجاحات تشي غيفارا، ويغضب لانقلابٍ دبّرته "سي آي إيه" على حكومةٍ يساريةٍ في أميركا اللاتينية. كانت انفعالات حقيقية، تنطلق إلى مجالٍ حيوي واسع، إنساني وكوني، ساعد في بلورة شخصية أفراد كثيرين وعبأهم بطموحات واسعة، قادت بعضهم إلى التحوّل إلى نجوم في مجالات الفن والثقافة والجامعة والعلوم.
الأمر نفسه يمكن قوله عن "القومية العربية" التي كانت مصر منصّة تصديرها إلى أرجاء العالم العربي، فهذا الشاب الجنوبي تراه يخرج في تظاهرات ضد العدوان الثلاثي على مصر، ويخوض نقاشاتٍ، وربما عراكاً بالأيدي، مع مخالفيه في الرؤية والتصوّر.
لا حاجة لأن نقرأ كتاب بندكت أندرسون "الجماعات المتخيّلة" لنفهم بساطة الفكرة التي ترى التأثير الملهم لهذه الصور الأيديولوجية وسياقها السياسي والاجتماعي، في تحريك المسارات الشخصية للأفراد وتحديد خياراتهم الحياتية، على الرغم من كونها صوراً معبّأة بالخيال، أو بالطموحات الواسعة العريضة التي يضيق بها الواقع ويفشل في التطابق أو التماهي معها.
غادرت الشيوعية والقومية العربية الساحة، ولم تحقّق أحلامها، ولم تتجسّد "خيالاً" واقعاً ملموساً، فضلاً عمّن ينتقدها بقسوة، ويرى أنها كانت خيالية أكثر مما يحتمل الواقع بكل تعقيداته. والأمر يمكن أن ينطبق على مسارات الإسلام السياسي الذي ورث الاستثارات العاطفية والخيالية لليسار والقومية المنحسرة.
إنّها تصوّرات عن الذات والأمة والعالم والمستقبل، معبّأة بالخيال، ولكنه خيالٌ ضروري، إنه امتدادٌ للذات للتنفّس في عالم من الوعود، وهو امتداد يحرّض الذات على التقدم. يبقى الخيال خيالاً ولا يتجسّد على أرض الواقع، ولكنه يحثّ على التقدّم والإيمان بيوم جديد، وأهمية مساهمة الفرد في حركة التاريخ العامة.
يسخر أحد الأصدقاء من الحملة على مواقع التواصل لبعض المصريين الرافعين شعارات مثل: أنا مش عربي... أنا مصري. فيقول: طيب... لكنّكم تأخّرتم في هذا الإعلان، بعد أن أغرقتوا العالم العربي عقوداً بشعارات العروبة والقومية. وينظر صديق آخر إلى صور شاب قابع في زاوية ما من الجنوب العراقي، وهو يلفّ الغترة على رأسه، ويسير في الطريق الطويل نحو كربلاء في الزيارة الأربعينية الأخيرة، ويتعجّب من حماسة هذا الشاب لـ"الهوية الشيعية"، وكيف أنه، مع آخرين كثر مثله، يرون أنفسهم و"يتخيّلونها" جزءاً من فضاء واسع اسمه الهوية الشيعية. على الرغم من أنه لا يستطيع رؤية الأفق المستقبلي الذي تعد به هذه الهوية (بالمقارنة مع المضمون التقدمي لليسار والقومية العربية في حقب سابقة).
المشكلة أن حماسة الشباب المصريين المفرطة، أو بعضهم إن توخّينا الدقّة، للهوية المصرية الموضوعة في تقابلٍ حادّ تعسّفي مع الهوية العربية، أو حماسة هؤلاء السائرين نحو كربلاء لهويتهم الشيعية، هي تعبيرٌ عن حاجة إلى الارتماء في الفضاء العاطفي لـ"هوية متخيّلة" ما، لأنّه لا بدّ من هوية، خصوصاً حين تفشل النخب من داخل سياقات عمل الدولة ومؤسّساتها في تعزيز هويةٍ أكثر توجيهاً أو أكثر جدوى وواقعية.
بعد عشرين سنة من تجربة بناء نظام سياسي جديد في العراق، يمكن القول، بثقة، إنّ مشروع إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية وترميمها دخل في نفقٍ ضيّق متعرّج، لأنّ الديمقراطية النازلة بالباراشوت على العراقيين سرعان ما تحوّلت إلى وسيلة للصراع الداخلي، وهو صراع يتضمّن صراع قصص وحكايات و"هويات متخيّلة" مع بعضها البعض الآخر، وهي ترفض كلّها الذوبان، أو حتى الاعتراف بفوقية الهوية الوطنية، فضلاً عن أنها غير مؤمنة بالانخراط في مشروع ترميم هذه الهوية وبثّ الروح فيها.
كانت هذه الهوية الوطنية مشروع الفنانين والأدباء والمثقفين، وليست مشروع النخب الحاكمة، وهؤلاء، مع حماسة الشباب للانفتاح أكثر على العالم، أوجدوا فضاءً للتفاعل في ساحات التظاهر أكثر من عقد، ثم بلغ ذروته في تظاهرات تشرين الأول 2019، التي قمعت بقسوة، بتحالفٍ بين النظام القائم مع المجتمع الدولي. والنتيجة أن حجم الإحباط واليأس صار مضاعفاً، وراحت الهوية الوطنية التي كانت أغنية جارحة مُبكية على ألسن الجميع، بين أرجل رجال السلطة وجزماتهم وأحذيتهم.
تصرّ الأحزاب المكوّنة للنظام السياسي القائم على تكرار الخلطة "الخيالية" المنفصلة عن الواقع، للحكومات والأنظمة السابقة، بمزيج من أدوات سلطوية استبدادية، مع عقائد عابرة للوطنية. ولأنه لا بدّ من هوية، تنساق الناس مع ما تريده السلطة، ومع ما تقترحه من هويات.