لإسرائيل الحقّ في تفتيش المساعدات!
ليس حقُّها في الدفاع عن نفسها وحدَه تُحرزه إسرائيل في ارتكابها الجرائم اليومية الموصوفة في عدوانها الراهن على قطاع غزّة وناسه، فثمّة "حزمةٌ" من الحقوق تتأتّى لها، وهي تخوض "حرب الاستقلال الثانية"، بحسب تسمية نتنياهو حملة التدمير والقتل العسكرية على العزّل في القطاع ومدنه ومخيّماته. ومنها الحقّ في الكذب والتدليس، وقد منحتْه لنفسها، فقوبِل بتسليمٍ أميركي تام، فوحدَها إسرائيل صاحبة الرواية عن واقعة 7 أكتوبر، وعلى العالم أن يصدّق ما تقوله، من دون أي فحصٍ أو محاولة تساؤل، فلا يعني شيئاً أن فِرية قطْع مقاتلي كتائب القسّام رؤوس أطفالٍ يهودٍ آمنين انفضح كذبُها الأسود، فهناك 1200 مدني إسرائيلي قتلهم "الإرهابيون في حماس" يصبحون 1400 في كلمة الوزير الأميركي بلينكن أمام مجلس الأمن (تحدّث فيها عن قتل الأطفال)، وكانوا 1300 في بيانٍ رئاسيٍّ أميركي. والظاهر أن لإسرائيل كل الحقّ في أن تجعل هذه القصّة مرويّةً مؤكّدةً في جهات الأرض الأربع، في غياب روايةٍ أخرى موثوقةٍ، مع انشغال الفلسطينيين بمحاولة عدّ شهدائهم وجرحاهم، فيما الذي كذَب في أُزعومة رؤوس الأطفال (واغتصاب النساء!) لا شيء يمنعُه من الكذب في عدد المدنيين القتلى، من دون تبيان كيفيّة مصرعهم.
إلى هذا وذاك، لإسرائيل حقٌّ آخرُ في غضون المذبحة يستثير زوبعةً من أسئلة الاستهجان المقرونة بغضبٍ وحِنْقٍ كثيريْن... لا يُجاز للغزّيين، وهم في حالٍ كارثيّةٍ على الصعيديْن، الصحّي والإنساني العام، أن يتلقّوا أيّ كرتونة دواءٍ أو ضمّاداتٍ أو عُلب حليب أو أيّ مما تشتمل عليه شاحناتُ المساعدات الإغاثية قبل أن تخضَع لتفتيشٍ (فحص بالتعبير الرسمي!) إسرائيليٍّ شاملٍ في معبر إسرائيلي، تدخُل إليه الشاحناتُ من معبرٍ مصري. وأول أسئلةٍ لا تنقطع يتعلّق بالذي أعطى دولة الاحتلال المعتدية هذا الحقّ، وكيف أباح صانع القرار المصري لها هذا الفعل الذي يبلغ فيه التمادي حدّاً لا يوصَف؟ وبأي مرجعيّةٍ في القانون الدولي، ومنه الإنساني، تتعاطى الأمم المتحدة مع هذا الأمر بعاديّةٍ ترخّصه، وتكاد تُشرعنه؟ ... يعرّفنا مراسل تلفزيون العربي، أحمد حسين، في الرابعة والنصف عصر أمس الأحد، إنّ 40 شاحنة مساعداتٍ باقيةٌ منذ ثلاثة أيام، تنتظر أن يفتّشها الإسرائيليون في معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي، وكانت قد عبَرت إليه من معبر العوجا المصري، والذي وصلت إليه، بعد سيرها نحو 40 كيلومترا، فور دخولها من معبر رفح المصري (الجانب الفلسطيني شبه مدمّر). وكان تقريرٌ إخباريٌّ سابق في "العربي" قد أفاد عن شكوى مسؤول كبير في محافظة سيناء من التكدّس الزائد للشاحنات والمساعدات فيها، واقترح أن "تنتظر" الشاحنات الأخرى في بور سعيد.
يزيد من العجب العُجاب أنّ أول قافلة مساعدات (20 شاحنة) عبرَت مباشرةُ إلى نقطة التنسيق القطرية في رفح الفلسطينية، قبل تفريغ ما فيها ووضعِه في مخازن وكالة أونروا والهلال الأحمر الفلسطيني في داخل القطاع، غير أن "أمرا" إسرائيليا جاء لاحقا بأن هذا لن يتكرّر، وأن على كل شاحنةٍ أن تذهب إلى معبر كرم أبو سالم (نتساريا باسمِه العبري) شرقي رفح، لتفتيشها بدقّة، ثم تعود إلى القطاع. وقد امتثلت السلطات المصرية، ربما خشيةً من تهديدٍ إسرائيليٍّ بقصف المنطقة الفاصلة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية. وهذا بيانٌ للخارجية المصرية يعلن، أول من أمس، متأسّفاً (!) إنّ "عملية نقل المساعدات إلى القطاع تواجِه مشكلاتٍ لوجستيةً رئيسيةً فرضها الجانب الإسرائيلي". ويوضِح (جيّد أنه يوضح؟) "أنه قد لوحظ وجود تشدّدٍ كبيرٍ من الجانب الإسرائيلي في إجراءات التفتيش، بل ورفض دخول العديد من المساعدات، لاعتباراتٍ سياسيةٍ وادّعاءاتٍ أمنيةٍ مختلفة".
ولأيٍّ منا، عند قراءته هذا البيان، وسماعه تقارير الزملاء من حيث هم في العريش ورفح، أن يتخيّل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يعلن، بعد استقباله الأمين العام للأمم المتحدة في القاهرة مثلا، وضع علمي مصر والهيئة الأممية على كل شاحنةٍ، تحمل مساعدات من مصر أو من أي دولة عربية أو أجنبية، تدخل من معبر رفح المصري إلى الأراضي الفلسطينية الحدودية مع قطاع غزّة، وأن مصر ستعتبر أي اعتداءٍ إسرائيليٍّ على أي شاحنةٍ بمثابة إنهاءٍ لحالة السلم معها، وأنها ستتصرّف عسكريا بما تقتضية اعتبارات السيادة المصرية، وإرادة الشعب المصري...
أظنّه امتثالُ القاهرة والأمم المتحدة للإرادة الإسرائيلية في هذا الملفّ الإنساني هو ما أجاز لدولة الاحتلال هذا "الحقّ" المستنكَر. وأظنّه غيابُ العين الحمراء في تصريحٍ متخيّلٍ للرئيس السيسي سببا آخر.