لاجئ المجدّرة
شرّدت الحرب كثيرين، واضطرّتهم للجوء هربا من أهوالها أو من الاستبداد والفقر، وغير ذلك من الأسباب المبرّرة لهذا، واضطر معظمهم للمغامرة بأرواحهم في الطرق التي تؤدي إلى الإفلات من وطأة أوطانهم البائسة، وفقد كثيرون أرواحهم غرقا وبردا وجوعا وقتلا في المعسكرات. الجميع يذكرون عبارة "لماذا لم يقرعوا الخزّان؟" في رواية غسّان كنفاني "رجال في الشمس" والتي تكرّرت بحذافيرها في أوروبا مع لاجئين سوريين ماتوا من البرد في ثلاجةٍ، بعد معركة دارت في نفوسهم بين الموت والأمل، فقد ظلوا يتحمّلون، حتى الرمق الأخير، كي لا يخسروا فرصة الوصول إلى برّ الأمان.
في وطنٍ لا يضمن لمواطنيه أدنى درجة من الكرامة، يمكن أن نفهم ذلك، فالإنسان الذي في السجن يغامر بحياته من أجل الهروب منه، وكذلك في الأوطان المحكومة بطغم مستبدّة. أما ما هو غير مفهوم فهو هروب أبناء تلك الأنظمة وطلبهم اللجوء. مثلا أمين فرقة حزبية، من المفترض أن هذا النظام أو ذاك يمثله، وقد أمضى زهرة شبابه ينافح عنه. استفاد منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أو كاتب التقارير الذي كان يكتب تقاريره بضحاياه الذين كانوا يعترضون على ما دفعهم إلى الهجرة، وعندما أتيحت له الفرصة، انضم إلى صفوفهم أو حتى من يدّعون الوطنية ممن يعتبرون الولاء للسلطة وطنية. من نافل القول أن الاستبداد في تلك الدول لا يقتصر على المعارضين أو على المواطنين العاديين فقط، فهو يقع أيضا على بطانة تلك السلطة من أنصار حزبيين ومتملقين، وغيرهم من النماذج التي تستحق بحثا منفصلا، فهؤلاء أيضا لا يشعرون بالكرامة، مثلهم مثل غيرهم، هم فقط يتحاشون الوقوع تحت سطوة استبداد السلطة. وكثيرون منهم تعرّضوا لذلك عند أول خطأ يرتكبونه، أو حتى من دون خطأ، وإنما في إطار الصراعات على المناصب والمكاسب.
ظاهرة لجوء هؤلاء انتشرت بين أفراد الجاليات المقيمة في أوروبا الشرقية بين من يملكون جنسيات هذه الدول أو المقيمين فيها، بعضهم فعلا بحاجة لهذا اللجوء من أجل الشعور بالأمان، ولكن كثيرين منهم من الفئات التي ذكرتها لا خطر عليهم في البلاد التي يعتبرون من المستفيدين من نظامها، ولا في البلدان التي يقيمون فيها. مع ذلك تبقى تلك رغبة مبرّرة، فهم أيضا، وهذا مؤكّد، يكرهون تلك السلطة ربما أكثر من معارضيها، لأنهم في طريقهم إلى ما هم فيه تعمّدوا بالذل، ولكن الموضوع الذي يثير مخيلتي هو تلك القصص التي ألفوها، لكي تقبل بهم سلطات الدول الأوروبية لاجئين؟ حدّثني صديق لي خاض هذه التجربة ثم تخلى عنها، بسبب ما شعر به من إهانة في أثناء التحقيقات في السويد، حيث كان قد جهز قصة عن مغامرته البحرية إلى اليونان، ثم ما عاناه في غابات مقدونيا وصربيا وغيرها، إلى أن وصل إلى السويد.
وعن الملاحقات الأمنية التي تعرّض لها في الوطن.. إلخ، من خاض تلك التجربة يتحدّث عن معاناته فعلا، أما الذي جاء من دولة أوروبية أخرى فهو يؤلف قصة مزيفة من ألفها إلى يائها، إنه باختصار يكذب، فما هي القصة التي اختلقها أمين الفرقة الحزبية؟ بكل بساطة، لقد تحدّث عن معاناته في سجن تدمر، هو والمخبر الذي كان معه، وعن البحر وعن طفل أنقذه من الغرق، وغير ذلك من القصص. يا ترى، هل اهتزّت شعرة في بدنهم وهم يروون تلك القصص؟ هل يشعرون ببعض الندم أو التعاطف مع من كانوا يسبّبون لهم المآسي؟ أم أن واحدهم يروي قصة معاناته كالرجل الآلي؟ وهل يستطيع المحقّقون الشعور بانعدام أحاسيس هؤلاء، عندما يتحدّثون عن معاناة كاذبة؟ على الأغلب لا، لأن معظمهم أصبحوا سويديين، وهم بعد أن يتم قبولهم وحفاظا على خط الرجعة، يعلن معظمهم أنهم جاؤوا إلى السويد أو غيرها بعقد عمل. ومما يثير الضحك أن أحد المخبرين من ذوي الخيال الخصب ادّعى أنه جاء إلى أوروبا رضوخا لرغبة جامعة أوروبية عريقة فاوضته عدة أشهر من أجل أن يشارك في أبحاثها، كل شيء وارد فربما كانت تلك الجامعة تريد أن تجري بحثا في طبخ المجدّرة.