لافروف كان يمزح
ادّعاء امتلاك أجوبة عن كل الأسئلة التي فجّرها دفعة واحدة تمرّد زعيم مرتزقة "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، على سلطة فلاديمير بوتين، يتطلّب جرعة زائدة من الغرور. ففي حالة روسيا، وهي تعريفاً صندوق مغلق بإحكام على المعلومات الخاصة بآليات الحكم والعلاقات الناظمة لأركان السلطة ومدى قرب كل من هؤلاء من بوتين وبُعده عنه وحروبهم الداخلية ومصالحهم ودسائسهم وأحقادهم وتشابك مصالحهم، لا يُستغرب أن يُحرَج سيرغي لافروف، وأن يقرّ، بطريقته الخاصة دائماً، بجهله بخفايا ما حصل خلال الساعات الـ36 لما سمتها الاستخبارات الأميركية محاولة انقلاب بريغوجين. وطريقة لافروف الخاصة كناية عن تحذلق مؤامراتي معتاد لديه. تحذلق مؤامراتي ألمح من خلاله، في مؤتمر صحافي يوم الاثنين الماضي، إلى دورٍ ما محتمل للاستخبارات الغربية في تلك الفضيحة التي سيظلّ يُصطلح على تسميتها عن حقّ أسوأ أزمة يواجهها الرئيس بوتين منذ وصوله إلى السلطة، الأسوأ إلى حين تعرّضه لما قد يكون أسوأ مما حصل طبعاً. ولأنّ لافروف يحاول جاهداً الإيحاء بجدّية مفرطة مرفقة بعبوس محكم، حين يكون الأمر فادحاً، فإنه توخّى عدم تحويل نفسه إلى محمّد سعيد صحّاف جديد، فلم يجزم بوجود مؤامرة غربية دفعت بريغوجين إلى تنفيذ محاولة انقلاب، بل قال إن استخبارات بلاده تبحث عما إذا كان هناك دعم غربي للعدو الأول للغرب، بريغوجين، من عدمه.
والحال أنّ بشاعات النظام الروسي يصعُب أن تُحصى، إلا أن الاستخفاف بعقول البشر من بين أفدح تلك الآفات، والتهرّب من التفكير الجدي بما حصل والتلميح الجاهز إلى دور أجنبي فيه، إنما فيهما لا استهزاء بالتاريخ والمنطق ولي عنقهما فحسب، بل أيضاً يخصمان من رصيد ذكاء القائل بتلك النظرية، ويضعانه في خانة لا يتمناها العدو لعدوه، فيصبح بهذا الكلام المجاني معادلاً روسياً لبشار الجعفري أو لفيصل المقداد مثلاً. لو يصدق سيرغي لافروف يوماً ما بعد تقاعده من وظيفته ومن أي وظيفة حكومية أخرى، لا بد أن يكتب، في مذكراته أو في دفتر خواطره، ما قد يكون مطلعه من وزن:
عرف الغرب فعلاً قيمة فلاديمير بوتين في تلك الساعات الـ36 بين ليل الجمعة ونهار السبت 23 - 24 يونيو/ حزيران 2023. حينذاك، لا شك في أن كل أجهزة استخبارات دول الغرب وحكامها تمنّوا لبوتين كل التوفيق في سحق التمرّد. ألمح كثيرون من المسؤولين في أوروبا وأميركا إلى مشاعرهم تلك من خلال التشديد على ماذا يعني أن يفكّر المرء للحظة باحتمال وصول مجرم بلا ياقة وعدمي مثل بريغوجين إلى السلطة في بلد كروسيا، هو، من بين أمور أخرى مفزعة، صاحب أكبر ترسانة نووية في العالم. مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قال يوم الاثنين إنه "ليس بالأمر الجيد أن نرى قوة نووية على غرار روسيا تمر بحالة انعدام استقرار. ويجب أخذ ذلك بالاعتبار". وزير خارجية اللوكسمبورغ جان أسيلبورن حذا حذوه، واعتبر أن "تحطيم أكبر دولة تمتلك أكبر ترسانة أسلحة نووية سيشكل خطراً كبيراً على أوروبا". ومن لم يتواضع كبوريل وأسيلبورن من رؤساء بلدان ووزراء خارجية في أوروبا وأميركا، اكتفى بتكرار ما صار لازمة سياسية كانت الأكثر انتشاراً في الإعلام العالمي خلال الأيام الثلاثة الماضية: ما حدث في روسيا شأن داخلي. وعندما يقول خصوم روسيا وأعداؤها إن أمراً ما شأن داخلي ذلك يعني أن لسيد الكرملين مطلق الحرية في التعامل مع ذلك "الشأن الداخلي".
فرح أعداء بوتين بين الجمعة والسبت الماضيين أيّما فرحة بإضعافه وبإذلاله على يد بريغوجين، وأدركوا الكثير عن الوضع الداخلي للسلطة في روسيا من خلال الأحداث العجيبة لتلك الساعات. لكن من يظنّ أنّ سياسياً مسؤولاً يفضّل استبدال بوتين بظاهرة عدمية مثل بريغوجين، فإنما عليه التأكد أن سيرغي لافروف كان يختبر قدرته على المزاح العابس في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين.