لا في عزّ الخراب
من لا ينتبه إلى الفارق ما بين الخراب العربي الحالي وذلك السابق على ثورات الربيع العربي، عليه أن يفحص ذاكرته. هو خراب في الزمنين، صحيح، لكن أحياناً، يكون ما بين خرابٍ وخراب، كمثل الفارق ما بين الأبيض والأسود. ليس الأمر بحثاً عن نقطة ضوء وسط الظلمة، أو تحسيناً مجانياً للمعنويات، ولا اكتشاف أن للكأس نصفًا ملآن، بل مجرد إكمال لعبارة: القتل والظلم والتسلط تنتصر في العالم العربي .. لكن في ظل مقاومات متعددة الأشكال، سلمية أو دموية.
أهم إنجازات موجة انتفاضات 2011، أنها جعلت رفض الاستبداد عند طيف من المواطنين العرب (بعيداً عن وهم الباحثين عن إجماع مستحيل) أمراً عادياً، بعدما كان قبوله والخضوع له هو العادي الوحيد. ورفض الظلم والقتل والقمع والتعذيب والقتل في هذا السياق يُختصر بالكرامة، لذلك سُميت بعض الثورات العربية بـ"انتفاضات الكرامة". لا يزال المواطن مسحوقاً وربما أكثر من ذي قبل، لكنه صار يقول لا، صار يرفض، يحاول أن يرفض على الأقل، يردّ الصاع صاعين حين يقدر، وإن وصلت الأمور إلى حدّ القتل. قبل موجة 2011، كان الظلم والقتل والاضطهاد والإفقار يُواجَه في معظم الحالات العربية (لا يسري ذلك على فلسطين) إما بالكلام على التلفزيونات من المنافي، أو بالدعاء إلى الخالق، أو بأحسن الأحوال بجهود نقابية مطلبية محدودة غالباً ما كان القيمون عليها يلقون مصير مثيري الوهن في نفسية الأمة. ورغم كل الخسائر التي تنزل بنا حالياً على يد محور الثورات المضادة، إلا أن أمراً عظيم الأهمية لا يزال ناجياً من الخراب: محاولات مقاومة الاضطهاد والحكم العسكري والتسلط والانقلابات وحكم العائلة والفساد، بما تيسّر. بعدما كانت النكتة العربية الشهيرة تقول "تصبحون على انقلاب"، للدلالة على سهولة حصوله، صار الفعل يفرض على مرتكبه حسابات وترتيبات كثيرة. حتى في عاصمة الخراب العربي، سورية، فإنّ عنصر المواجهة لم يمت رغم المذبحة الأسدية الكبرى. لا علاقة هنا بحكم قيَمي على المواجهة، ولا على الحروب الأهلية، بل المهم هو فكرة المواجهة بحد ذاتها. السوريون، عندما انتظروا عاماً كاملاً قبل أن يُجبروا على حمل السلاح دفاعاً عن النفس، كانوا يدركون كم هو خبيث من يقول إن ما قبل 2011 كان "زمناً سورياً جميلاً"، على أساس أن الجمال هو في صمت القبور، في أن يبقى المرء حياً يتنفس ويأكل وينام، لكنه يخاف من ظله ومن وشاية من شقيقه ومن أبنائه وزوجته لو تجرأ على التفكير، لو أبدى رأياً أو انتقد سلطة. يعرفون اليوم أن لا شيء كان جميلاً في الحياة السورية ما قبل 2011، ولا شيء جميلاً منها اليوم، لكن الأهم أنهم صاروا "يطيلون لسانهم"، يصرخون ويرفضون ويواجهون، بالممارسة أو بالسخرية أو برسم على جدار... أو عبر ردّ القتل بالقتل. في تونس، حيث بدأت الحكاية، جاء منتحل صفة الثورة بانقلابه وبكل بشاعات شعبويته وتسلطه وأمراضه وفاشيته وكذبه. انقلاب قيس سعيّد نجح لكن سرعان ما صارت مظاهر رفضه تكبر. كانت الانقلابات العربية تحصل كشربة ماء وسرعان ما تكمل الحياة دورانها. أما اليوم؟ اسألوا السودانيين. صحيح أن لهم خبرة طويلة في الانقلابات وفي مقاومتها تاريخياً، لكن الرفض اليوم أوضح، أكبر، وانتشاره الجغرافي غير محصور في العاصمة والمدن الرئيسية.
خبرة السنوات العشر من الانتفاضات العربية، بكل ما فيها من مصائب، تركت ذخيرة لا تُقدر بثمن. الليبيون، الأفقر في التجربة السياسية، بدورهم صار طيف واسع منهم يدركون أن إجراء انتخابات بأي ثمن كتلك المقررة في الشهر المقبل، سيكون نبعاً لأزمات وحروب مستقبلية وربما يسرّع آجال تقسيم محتمل ما بين غرب وشرق وجنوب. يدركون أن مجرد ترشيح سيف الإسلام القذافي نفسه للرئاسة، مثل خليفة حفتر وربما بشير صالح، إهانة موصوفة، والإهانة ما بعد 2011 عربياً لا تُرَد بالبكاء ولا بالنحيب ولا بالدعاء. الإهانة تُرفَض، وتواجَه وتُقاوَم.
أما في مصر، فهل يعتقد أحد أن الإهانة الكبرى هناك مكتوب لها عمر الخلود؟