لا لنزع سلاح المقاومة
الشرط الإسرائيلي المُطالب بنزع سلاح المقاومة في غزة تفصيلٌ لعنوانٍ أكبر. فتجريد المقاومة من سلاحها، هو تجريد للشعب الفلسطيني من حقه في المقاومة، بكل أشكالها المتاحة أمامه، بما في ذلك الكفاح المسلح المُشَرع دولياً، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، مهما حاولت أميركا وصمه "بالإرهاب"، أو بأي صفة تلفيقية أخرى.
مشروعية المقاومة بكل أشكالها، ودورها في كفاح الشعوب للتحرر من الاستعمار، يتم طمسها وتجريمها، بالركون إلى تهمة الإرهاب، وتخويف الشعوب بشبحها، وتكثيف الضغط النفسي عليها، حتى يتوصل الفلسطيني خصوصاً، والعربي عموماً، إلى استنتاجٍ مفاده، أن لا فائدة في المقاومة، وأن فتات مائدة مفاوضات من سلام وهمي، هو البديل الوحيد لتهديد الدمار الإسرائيلي.
لذا؛ فالمشكلة ليست في المطلب الإسرائيلي وحسب، بل في المطلب العربي الرسمي. إذ لا معارضة عربية له، والأسوأ أن هناك عقلية، ونفسية محبطة، تربت في ظل تغييب الوعي بالقضية الفلسطينية في المجتمع العربي، ترى في المقاومة ضرباً من العبث والجنون.
وفي العقدين الأخيرين، وفي سياق تسويق "عملية السلام"، جرى تغييبٌ ممنهج لتاريخ القضية الفلسطينية، ولانتصارات نضال التحرر من الاستعمار، سواء في فيتنام أو الجزائر، أو في تجاربٍ أخرى، لمعت في سجلات التاريخ، أحياناً باسم سيادة القوة و"الواقعية"، وأحياناً أخرى باسم الفكر "الحضاري" الذي يدين العنف، إلا إذا كان هذا العنف أميركياً، وإسرائيلي الصنع والمنشأ، فتجده منزهاً عن الإدانة.
العنف المُفعل بأشد الأسلحة فتكاً يصبح حقاً أخلاقياً، حين تعلنه أميركا وإسرائيل. أما المقاومة، حتى السلمية منها، مثل حركة المقاطعة للبضائع الإسرائيلية والشركات التي تتعامل مع الاحتلال يصبح عداءً للسامية، وتقويضاً "لعملية السلام"، بينما المقاومة المسلحة تصبح إرهاباً مطلقاً، على الشعب الفلسطيني وأطفاله دفع ثمنه، لأن ازعاج "أمن إسرائيل" محظورُ في العرف الأميركي.
لذلك، كانت وما زالت، ما تسمى "الضمانات الأمنية" التي تشترطها إسرائيل، أساس أي مفاوضات، لتمرير البضائع، أو للسماح للناس بالتنقل، أو لانسحابٍ جزئي تقوم به قوات الاحتلال من هذه المنطقة، أو تلك، أو للاتفاق على تهدئة. هذا، في حين تشترط إسرائيل أن تضمن السلطة الفلسطينية كبح ردة الفعل الشعبية، فيما يستمر جيش الاحتلال باختطاف الفلسطينيين وقتلهم وسرقة الأراضي وهدم البيوت.
فالاحتلال يحتجز الفلسطينيين رهائن، ولا يسمح لهم إلا بالمطالبة بتحسين شروط عبوديتهم، وفقاً لشروطه. سواء كانت هناك مفاوضات "سلام" أم لا، فلا فرق، وحين ينفجر الفلسطيني غضباً ويقاوم، فهو متهم بالإخلال بالهدوء، لأن الهدوء في القاموس الإسرائيلي-الأميركي يعني حرية الجيش الإسرائيلي بالتنكيل بالفلسطينيين، وترسيخ الاحتلال، من دون أي إزعاج لحياة الإسرائيلي في القدس، أو في سيدروت ومعالي أدوميم وتل أبيب.
مفهوم الهدوء في العرف الإسرائيلي مفهوم عنصري بامتياز؛ فالإسرائيلي، وفقاً لرؤيته عن ذاته، إنسان متفوق حضارياً، ويحق له الاستمتاع بالحياة براحة وطمأنينة، أما الفلسطيني العربي فهو كائن أقل قيمة في روحه ووجوده، فلا حاجة له لماء الاستحمام، أو التمتع بالحياة. وحتى إنه لا حاجة له لملجأ أو مسكن، فمجتمع مبني على الاستيطان والاقتلاع يريد من ابن الأرض أن يختفي، أو هو يخفيه بقوة السلاح.
المقاومة كفكرة، تؤرق الاستعمار دائماً، لكنها تؤرق الاستعمار الإحلالي، كما هي الصهيونية في فلسطين، بشكل مضاعف، لأن المقاومة تعبر عن عدم نسيان التاريخ، ورفض التخلي عن الحق، أما المقاومة المسلحة فتحقق إخلالاً في منظومة الاحتلال السياسية والنفسية، وتؤرق من استوطن الأرض باقتلاع إنسانها.
والحرب الأخيرة، والمستمرة على غزة، هي حرب على الفلسطينيين كلهم، لفك ارتباط غزة، ليس في الضفة الغربية فقط، لكن، بكل الشعب الفلسطيني. لذا، جاء صمود المقاومة والتأييد الذي حازته من الشعب الفلسطيني في كل مناطق وجوده ضربة لصانعي الحرب الإسرائيليين، فلا يمكن للصهاينة إعلان انتصارهم، من دون التمسك بشرطهم وتحقيقه، أي نزع سلاح المقاومة، شرطاً للهدنة ووقف القتال.
التأكيد على نزع سلاح المقاومة له هدف نفسي آخر، وهو غير محصور في تطمين الإسرائيليين فقط، لكن، أيضاً، لبعث رسالة إلى الفلسطينيين والعرب، تقول إن المقاومة تتحمل مسؤولية قتل الأطفال، في حال رفضت شروط الحاكم المستعمر.
في هذه اللحظة، المطلوب أن لا نخلط بين حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة وضرورة إخضاع المقاومة للتقييم، بل وللتقويم، إذ إن نزع سلاح المقاومة، لا يعني سحب شرعية الكفاح المسلح فقط، بل وتجريم المقاومة أيضاً، لذا، فإن أي إدانة للمقاومة تبرئة للمحتل الإسرائيلي من جرائمه، وتغييب لأكثر حقوق المظلومين أساسية، أي مقاومة مُضطِهديهم.