لا مكان آمناً للمدنيين في السودان
"تلقّينا روايات مُوثّقة عن هجمات عشوائية ضدّ المدنيين والأهداف المدنية، بما في ذلك خلال الغارات الجوّية والقصف في المناطق المُكتظّة بالسكّان، فضلاً عن الهجمات البرّية ضدّ المدنيين في منازلهم وقراهم". هذا ما قاله رئيس البعثة الدولية المستقلّة لتقصي الحقائق في السودان، محمد شاندي عثمان.
الخرطوم: ... يعيش حوالي 80 شخصاً، أغلبهم من النساء والأطفال السودانيين مُحاصرين منذ شهور داخل مبنى كنيسةٍ كاثوليكيةٍ في منطقة الشجرة في العاصمة المُهدّمة. تُظهر الصور، التي نشرتها "رويترز"، حطام المبنى الذي يحتمي فيه القسّ الهندي جاكوب، وسبعةٌ من أعضاء البعثة، مع عشرات الأُسَر التي فرّت لتحتمي بالكنيسة، لكنّهم وقعوا في حصارِ قوّات الدعم السريع أحدَ أكثر معسكرات الجيش في المنطقة أهمّية، فعجزوا عن الخروج بسبب القذائف التي هدمت سقف المبنى واشتعلت النيران في غرف الراهبات.
يعيش هؤلاء المحاصرون على أوراق الشجر أياماً كثيرة، وبحسب الأب جاكوب، يتجاهل كبار السن وجبات الطعام ليوفّروا الورق المغلي للأطفال. سعى "الصليب الأحمر" لإنقاذ المحاصرين قبل سبعة أشهر، لكنّ المحاولة الفاشلة أسفرت عن مقتل شخصَين وإصابة سبعة آخرين بعد هجوم مُسلّح على قافلة المنظّمة الدولية، التي كانت في طريقها لاستخراج الجَوْعَى من الكنيسة. لم تعترف جهة بتنفيذ هذا الهجوم، وتبادل طرفا الحرب الاتهامات، مثلما فعلا في جرائم كثيرة. وهكذا، ذهبت الدماء بلا قاتل معلوم، وظلّ المحاصرون ينتظرون المجهول. وبحسب الأب جاكوب فإنّه والراهبات الأجنبيات رفضوا عروضاً من الجيش لإخراجهم من الحصار، تاركين وراءهم الأهالي. هكذا يبقون في انتظار المجهول، بينما ينهشهم الجوع.
(إقليم دارفور): .... عاشت (ح) في مخيم نزوح سنوات عدّة. فرّت مع أسرتها من مذابح حروب دارفور التي اشتعلت في 2003. لكنّ الحرب لم تتركها. طاردتها في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور حيث كانت تعيش مع عائلتها. في يونيو/ حزيران 2023 هاجمت قوات الدعم السريع المدينة. تروي (ح) أنّها سمعت أصوات المُسلّحين يقتربون على درّاجاتهم النارية. أعاد لها ذلك ذكريات المُخيّمات، وتَعرُّضِها للضرب والاعتداء. تحكي أنّ أربعةً من الجنود دخلوا غرفتها، وهدّدوها بالأسلحة، وقام أحدهم بمحاولة خنقها واغتصابها. كانت (ح) أفضل حظّاً من غيرها. استطاعت الفرار ونجت بحياتها إلا من جروح وإصابات. ونجحت في عبور الحدود إلى تشاد لتحتمي في معسكر نزوح جديد.
نفت قوات الدعم السريع ارتكابها أيَّ انتهاكات في الإقليم. لكنّ من عبروا الحدود نزوحاً إلى تشاد يعرفون من طاردهم. ويُخبر شهود العيان بقصص الانتهاكات، ويحلمون. في مدرسة للاجئين السودانيين يحلم الأطفال باكتساب العلم، و"ربّما بالعودة ليحكموا البلاد التي جاؤوا منها"، كما تقول مُعلّمتهم، التي نزحت معهم.
(ولاية الجزيرة): .... حين هاجمت قوات الدعم السريع قرية ودّ النورة في ولاية الجزيرة (وسط السودان) ذبحت عدداً من المواطنين. وأطلقت النار والأسلحة الثقيلة عشوائياً على القرية الصغيرة. كانت مذبحة لم يعرف الناس بسرعة كمّ راح ضحيتها. ذكرت "يونيسف" أنّ 35 طفلاً على الأقلّ قتلوا في هذه الجريمة. تتراوح تقديرات الضحايا بين 180 إلى 200. قتلوا كلّهم خلال ساعات، في وسط بيوتهم وداخلها. بعضهم لم يَشفعْ لهم تخلّيهم عن ممتلكاتهم في مقابل النجاة بحياتهم. استخدم جنود "الدعم السريع" سيّارات المواطنين ليدوسوهم بها حتّى الموت.
الذين فرّوا من القتل داخل القرية لاحقتهم القذائف فصُرِعوا في الخلاء. وفي الأيام التالية، عندما كانت سلاسل النازحين تخرج من القرية، كانت تَمُرُّ بالجثث التي لم يعلم أحدٌ أنّها هناك. كانت تلك مذبحة تضاف إلى الجرائم الكبرى التي ارتُكِبت في حرب السودان. أنكرت قوات الدعم السريع هجومها على المدنيين في البداية، وزعمت أنّها شنّت هجوماً استباقياً ضدّ معسكرٍ لتدريب المُستنفِرين والمُتطوّعين لحمل السلاح. ثم عادت تنفي شنّ أيّ هجوم، وادّعت أنّ هذا جزء من مؤامرة لتشويهها.
تقول مساعدة الأمين العام للأمم المتّحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، مارثا بوبي: "المدنيون في السودان في مرمى النيران. لا مكان آمناً لهم".