لبنان: أزمات بلا نهاية
يخوض جزء كبير من اللبنانيين معركة بقاءٍ يوميةٍ في وجه الأزمات اللامتناهية. تتهاوى حياة اللبنانيين أمامهم منذ أكثر من عام. كل يوم يمرّ دهر. هناك من يصرّ على شدّهم خطواتٍ إلى الوراء، أو القعر بشكل أدق. انهيار العملة المحلية أمام الدولار كان بمثابة الفقّاعة التي طال انتظار لحظة انفجارها. لم تنفع جميع الحلول الترقيعية، ولن تُجدي أي محاولاتٍ جديدةٍ ما دامت حالة الإنكار طاغيةً لدى الجزء الأكبر غير الراغب في الاعتراف بخطورة هذه السيرورة ومآلاتها الكارثية، فلا النظام مستعدٌّ للإقرار بفشله، ولا الشعب يريد إعلان العجز عن مواجهة المنظومة الحاكمة، على الرغم من جميع المحاولات التي جرت، وكانت انتفاضة 17 تشرين (2019)، وما تلاها من تحرّكات في الشارع، التعبير الأمثل عن حالة الغضب التي تعتمر النفوس، والرغبة في عدم الاستسلام والتغيير.
هم يضحكون عليه وهو يضحك عليهم. يتبادلون الأدوار كلما سنحت لهم الفرصة. لكن الكفّة، في ميزان الربح والخسارة، تميل غالباً نحو الحكّام، فيلحقون الهزيمة بالشعب على نحو شبه دائم. إنهم في الحقيقة يمتهنون إذلاله، حتى في أبسط الخدمات. كيف يمكن تفسير حرمان الملايين عقودا من الكهرباء ساعات طويلة مقابل إثقال خزينة الدولة بمليارات الدولارات بذريعة محاولة تأمين الكهرباء حيث وضع المواطنون تحت رحمة أصحاب المولّدات الخاصة، وإجبارهم على دفع بدل الفاتورة اثنتين لضمان عدم انقطاعها عنهم.
وكيف يفسّر العجز عن تأمين المياه، تاركين المواطنين لتدبّر أمورهم. شراء مياه للاستخدام المنزلي، وأخرى للطبخ وثالثة للشرب. وبينما تتوافر المياه بكثرة لدى أصحاب الصهاريج يكتفي مسؤولو الدولة باختلاق الأكاذيب لتبرير فشلهم. حال هؤلاء الحكام مع الشعب كحال المصارف. وتلك حكاية أخرى، تصلح لكتابة مسلسلاتٍ بأجزاء عدة. لدى كل لبناني يمتلك حساباً مصرفياً قصة خاصة. بإمكان اللبناني أن يتحدّث إلى ما لا نهاية عن تجاربه وتحوله من زبون تلاحقه المصارف لإقراضه وإغراقه بالديون لشراء منزل أو سيارة أو السفر أو حتى إجراء عملية تجميل إلى زبونٍ غير مرغوب فيه، محروم من ماله، عليه أن يكتفي بمراقبة المصارف تسرقه، تضع يدها على مدّخراته، وتمنعه من الاستفادة منها إلا بالقطارة. تُجبره أن يكون تحت رحمتها، على الرغم من كل أشكال المقاومة التي تتخذ غالباً هيئة إشكال يحصل شهرياً من زبائن متمرّدين، يمتلكون ما يكفي من الغضب والجرأة وطول البال للدخول في معركة كهذه. .. هو إذاً تفنن في إهانة هذا الشعب، محاولة سحقه، عدم إبقاء أي رغبة لديه في المقاومة.
وهكذا عوض أن يحتفل اللبنانيون بمائة عام على نشوء بلدهم، على بلوغه مرحلةً جديدةً من التطوّر، مرّت الذكرى كنذير شؤم. كان على اللبنانيين، عوضاً عن ذلك، أن يجدوا أنفسهم يكابدون لتأمين قوت يومهم، يفاضلون في أولوياتهم، يقايضون أو يبيعون ثيابهم وما لديهم من أجل ربطة خبز أو مواد غذائية أو حليب أو حفّاضات لأطفالهم أو دواء يعجزون عن تأمينه. كان عليهم أن يشاهدوا دولتهم تتواطأ عليهم حتى تفجير العاصمة بيروت وتدمير نصفها، ثم تفعل ما في وسعها لإخفاء الحقيقة، وضمان إفلات المجرمين من المحاسبة. تحوّل جزء من اللبنانيين من دون أي مبالغة إلى معدَمين يعيشون بانتظار صندوق الإعاشة والمساعدات المالية التي توزّعها الجمعيات شهرياً. ينتظرون من يُصلح لهم زجاج منازلهم وأبوابها التي تحطّمت بانتظار أزمة/ كارثة أخرى.