لبنان .. الفراغ الحكومي بروفة للفراغ الرئاسي
يرى مراقبون عديدون اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر في لبنان على الفراغ الحكومي بعد استقالة حكومة حسان دياب، أنّ الفراغ الناجم عن خلاف رئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه صهره جبران باسيل، مع الرئيس المكلّف سعد الحريري، على شكل الحكومة والحقائب والأسماء، يبقى أبعد من صراع الرجلين على آلية الحكم. فما يدور حالياً من خلافٍ بين الطرفين يمكن إدراجه ضمن "صراع الإرادات"، القائم على معادلة "أكون أو لا أكون"، حيث تلعب العوامل الشخصية والمواقف المسبقة، إلى جانب طبيعة النظام الطائفي اللبناني، المسمّى تجنياً "الديمقراطية التوافقية"، دوراً حاسماً وكبيراً في هذا الخلاف الذي ولّد الفراغ الحكومي. فراغ يُتوقع له الاستمرار إلى أمدٍ غير منظور بحكم الأولويات والأهداف المتباينة للفرقاء اللبنانيين، فما يشهده لبنان من أزمات سياسية متكرّرة تطل مع كل استحقاق داخلي، لا يمكن إرجاعها إلى الغموض في بنود الدستور، كما يرى بعضهم، ولا في التباس نصوصه، ولا يمكن إرجاعها إلى ملاعب ولاعبين إقليميين، على الرغم من تأثيرهم المهم، بل ترجع، بشكلٍ أساسي، إلى الصراع على السلطة بين الكتل والأحزاب والتيارات، وكذلك إلى مقاربات آليات الحكم بين المؤسسات والسلطات الثلاث ومحاولة الاستفادة من هذه السلطات بأي شكلٍ.
لو نُظر إلى الأزمة الحالية على المستوى السياسي من زاوية استشرافية للمستقبل الذي قد لا يتعدّى السنتين (تاريخ الانتخابات الرئاسية اللبنانية القادمة)، يمكن القول إن كلاً من الرئيس عون والرئيس الحريري يتصرفان وفقاً لرؤى ومصالح شخصية. لذا تأتي تحرّكات كل طرف في الأزمة الحالية ضمن الرؤية الاستشرافية للمستقبل القريب من وجهة نظر كل طرف. فمن جهةٍ، يبدو أن الحريري ليس لديه أي نية للقبول بحكومة تحمل بين طياتها فتيل انفجارها أو تعطيلها، لذا يرفض رفضاً قاطعاً زيادة عدد الوزراء. كذلك يرفض إعطاء التيار الوطني الحر الثلث المعطّل، لأن في ذلك، حسب قراءاتٍ عديدة، نوعاً من تفريغ السلطة التنفيذية من مضمونها التنفيذي، خصوصاً أن هناك قناعة لدى قوى سياسية لبنانية عديدة بأن الانتخابات النيابية لعام 2022 لن تحصل في موعدها، وكذلك سيتعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً لميشال عون. الأمر الذي يعني تصدّي الحكومة (الرئاسة الثالثة) وحدها لملء الفراغ. وربّما يشكل هذا الأمر الهاجس الأول والهم الأكبر للرئيس عون، ويدفعه إلى المطالبة بالثلث المعطل لمصلحة التيار الوطني الحر، بهدف ضمان المشاركة الفاعلة في الحكم، وكبح سلطات الحريري عند الضرورة.
يمثّل الفراغ الحكومي الحالي الأمر الواقع الذي يحاول عون فرضه في لبنان، بالتكذيب حيناً والمماطلة أحياناً أخرى، تحت عنوان الشراكة الكاملة لرئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة
ومن هنا، يمكن الجزم بأن تمسّك عون، ومن خلفه صهره جبران باسيل، بتمثيل التيار الوطني الحر بشكلٍ جيدٍ في الحكومة العتيدة من خلال الحصول على الثلث المعطل، بما فيها بعض الوزارات السيادية، يتعلق بشكلٍ أساسي برغبة عون وطموح باسيل بمنصب الرئاسة، لذا يقاتلان للحصول على حظوظ أكبر في الحكومة المقبلة، المتوقع أن تتولى كل الصلاحيات في حالة شغور منصب الرئيس، الأمر الذي يُسهّل على باسيل فرض عملية انتخابه في مجلس النواب رئيساً للبنان ضمن توازنات معينة. وهو في ذلك يعتمد بشكلٍ أساسي على كتلته البرلمانية، وعلى تحالفه مع حزب الله، ضمن معادلة "التصاق الرئاسة بالحزب"، القائمة على انحياز التيار إلى الحزب في صراعه وحروبه من خلال تأمين الغطاء المسيحي للحزب، مقابل دعم الحزب التيار في حروبه السياسية التي في مقدمتها "حرب الرئاسة" ومصادرة المواقع الرئيسية لتحقيق المنافع المالية على أنواعها، باسم حقوق الطائفة المسيحية، مع ما يقتضيه النظام الطائفي من تقاسم للحصص.
وبالتالي، يمثّل الفراغ الحكومي الحالي الأمر الواقع الذي يحاول ميشال عون فرضه في لبنان، من خلال التكذيب حيناً والمماطلة أحياناً أخرى، تحت عنوان الشراكة الكاملة لرئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة، وذلك في سبيل إنقاذ المستقبل السياسي لصهره باسيل، وإنْ على حساب لبنان ومواطنيه الذين يرزحون تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والمالي والصحي الذي يهدّدهم في وظائفهم ولقمة عيشهم وحياتهم.
إزاء هذه الأولويات والأهداف المتباينة والمتناقضة للفرقاء اللبنانيين، وعدم استعدادهم بعضهم لتقديم تنازلات للبعض الآخر، والتعاطي اللامسؤول مع الشعب اللبناني الذي يرزح تحت وطأة مجموعة أزمات غير مسبوقة، تبقى مهمّة تشكيل الحكومة العتيدة معقدة للغاية، وتدخلها في حالة من الجمود الطويل المرجح أن يمتد أشهراً قد تطول إلى نهاية ولاية الرئيس ميشال عون منتصف عام 2022، ليكون بذلك الفراغ الحكومي الحالي مجرّد بروفة للفراغ الرئاسي المقبل، الذي سيقود لبنان إلى مكانٍ لا تُحمد عقباه.