لبنان: تفكّك ثنائية الأمن والقضاء
دخل لبنان مرحلته الأخطر في الأسبوع الأخير. كل شيء يوحي بوصوله إلى مراحل الانهيار العظيم. للأساسيات مؤشّرات سعرية يومية، مثل القمح وبعض الأدوية، وللمحروقات مؤشّران سعريان يومياً، عند الساعة 9 صباحاً، وفقاً لسعر صرف الدولار في الليلة السابقة، وعند الساعة 4 عصراً، وفقاً لسعر الصرف في اليوم نفسه. إذا لم يلجم أحدٌ هذه التطورات المقلقة، لا يُستبعد أن تُعلن المؤشرات كل ساعة وكل ربع أو ثلث ساعة. هو التضخّم الذي كان متوقعاً، في ظلّ حالة رافضة للعلاج على المستوى الرسمي.
في القضاء، لا أحد يمكن أن يتوقع أن تصدُر نتيجة التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، الذي وقع في 4 أغسطس/ آب 2020، عكس الإرادات السياسية، الراغبة بطيّ الموضوع، أو أقلّه تركه يموت عبر الزمن. هو المبدأ نفسه الذي طوى فيه أمراء حربنا الأهلية (1975 ـ 1990)، ماضيهم البشع في القتل والتدمير، باسم "العفو العام"، وأضحوا بعدَها أمناء على دولة مفكّكة، زرعوا في أركانها، في الجيل الأول، المقاتلين السابقين، وبعدها الأنصار والمحازبين. وما حصل ويحصل في هذه الأيام من انقسام قضائي في ملف الانفجار لا يُنذر فقط بانهيار حكم القانون، بقدر ما يمهّد أيضاً لسقوط الركن الثاني في أي دولةٍ طبيعية، وهو الأمن.
عادة، القانون والنظام في أي دولة مبنيان على ثنائية القضاء والأمن. يسقط واحدهما مع سقوط الآخر. ارتباطهما العضوي يلغي احتمالية صمود أحدهما في حال فقدان الثاني أهليته. في غياب الأمن، يُصبح تنفيذ القانون أمراً مستحيلاً، وفي غياب القانون يصير الأمن ديكتاتورية بحدّه الأدنى، وديكتاتوريات مناطقية وطائفية بالحالة اللبنانية.
الآن، من الصعب في لبنان، في حال اندثار حكم القضاء، أن يتحوّل الجيش، كمؤسسة وحيدة يثق بها العالم شرقاً وغرباً، إلى حاكم مطلق أو عادل. صحيحٌ أن الأسباب الطائفية طاغية هنا، سواء بسبب انتماء العناصر العسكرية إلى طوائف مختلفة، أو بفعل أن التعيينات في هيكلية الجيش مرتبطة بالشرائع المذهبية، لكن أيضاً الأسباب المالية، وتحوّل جنود عديدين إلى العمل في القطاع الخاص، خارج ساعات دوامهم الرسمي، ترسّخ مفهوم محدودية قدرة الجيش على التحرّك بصورة أكبر مما هو عليه حالياً، بقرار سياسي أو بعدمه.
تؤكّد هذه الحالة "الفريدة" من تراكم السلبيات أن الأطراف أو الطبيعة الحاكمة للعمل السياسي في لبنان غير قادرة على إعادة إنتاج نفسها ولا على معالجة الأزمات المتلاحقة. وهنا تُصبح التساؤلات جدّية، بشأن فرضية تدويل لبنان أولاً، وما إذا كان هذا التدويل مفيداً ثانياً، وأين يبدأ وأين تقف حدوده ثالثاً. وبعد، من يضمن ألا تدفع هذه التحوّلات إلى تغييرات جذرية في الواقع السياسي وواقع النظام والواقع الاجتماعي. ومن يضمن، أيضاً، أنه في مرحلة لاحقة، أياً كان الحل، في حال لم يكن مرتبطاً بمعالجات اقتصادية، ألا ينفجر داخل كل واقع ممكن نشوؤه على هامش الأزمات الحالية؟ هنا نكون انتقلنا من مشكلة جماعية كبرى إلى مجموعاتٍ متفرّقة من الأزمات.
لا تنبع بداية الحل سوى من نقطة واحدة: قضاء يحاسب وغير مزروع بمحسوبين على أطراف سياسية وطائفية، وأمن يطبّق القرارات القضائية من دون تلكّؤ. غير ذلك إقرار فعلي بالعجز عن المحاسبة في الداخل، تماماً كما حصل في قانون العفو في عام 1991. في المقابل، تبقى مشكلة واحدة: لا قدرة لأحدٍ في الداخل على تنفيذ الحل، وإلا يُرفع سيف التلويح بالحرب الأهلية. ولا أحد قادرٌ على فرض القضاء الدولي في الداخل اللبناني، لأن العالم حالياً غير معنيٍّ بما يجري في بيروت. وهذه المؤشّرات وحدها أشدّ قتامة من المؤشّرات السعرية اليومية، لأنها تترك البلاد في مهبّ الريح، وكأن كل أيام المرحلة الماضية وأشهرها وسنواتها ستكون "مزحة" أمام الحقبة الآتية.