لبنان في تحدّياتٍ لا تحصى
حشَد مؤتمر لبنان، بمبادرة من الرئيس الفرنسي ٳيمانويل ماكرون، دعماً دولياً قوياً بهدف تقديم المساعدات الٳنسانية، وأتاح جمع مليار دولار للبنان وجيشه، ولكن في أفق سياسي لا يزال غير مؤكّد لجهة التعبئة لوقف إطلاق النار ودعم انتشار القوى المسلّحة اللبنانية، مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل)، في مناطق القتال بين إسرائيل وحزب الله. وكما كان متوقّعاً، نجح المؤتمر في التذكير بالتزام فرنسا (السياسي خصوصاً) بالعمل على ٳعادة السلام ٳلى لبنان في دينامية دبلوماسية جارية في سلسلة المبادرات الفرنسية، التي رافقت أزمات لبنان المتتالية. وٳذ يبدو أن الهدف الأول قد تحقّق، من غير المرجّح أن تسمع ٳسرائيل وٳيران ٳلى دعوة فرنسا إلى ٳنهاء القتال على الفور.
أما المساعدات الإنسانية، فينظر إليها أنها رعاية لحاجات الطوارئ، والتقديرات كلّها تشير ٳلى انكماش بنسبة 2.9% ٳذا استمرّت الحرب حتى نهاية العام 2024، وإلى تراجع خطير في الناتج المحلّي الإجمالي (التقييم السريع الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي). وتكافح البلاد المدرجة في اللائحة الرمادية الأثار المباشرة للتفجيرات والنزوح وتدمير البنية التحتية ومعالجة الخدمات الٳنسانية التي تنهار، والعديد من الأساسيات التي تسمح للمجتمع بالعمل. وفي تقرير، قدّرت مجموعة العمل المستقلّة من أجل لبنان، وخبراء لبنانيون، أن كلفة الحرب، التي ألحقت خسائرَ فادحةً بحياة اللبنانيين وسبل عيشهم، تصل إلى 20 مليار دولار. وفيما رحّبت المنظّمات غير الحكومية بشكل عام بٳعلان زيادة المساعدات الٳنسانية في نهاية أعمال المؤتمر الدولي، انتقدت غياب الٳرادة السياسية، والشفافية في أداء المؤسّسات، والٳزدراء الصارخ للمجتمع الدولي، الذي يسمح بٳفلات الحكومة الٳسرائيلية من العقاب في غزّة ولبنان، إذ يثبت الجيش الإسرائيلي عدم اكتراثه بالقوانين وبالتمييز بين المقاتلين والمدنيين. لا ينبغي للسياسيين أن يقوموا بعمل ٳنساني، بل عليهم أن يمارسوا السياسة، فالحاجة ماسّة ٳلى خريطة طريق سياسية، وإلى ضغط أكبر على ٳسرائيل لوقف الحرب الواسعة والقصف المستمرّ.
نتائج الحرب أكبر من لبنان، الممرّ الصغير منذ "كامب ديفيد"، تتفجر فيه الأزمات، ومن مصلحته أن ينأى بنفسه عن الصراعات
مع ذلك، برزت أهمّية المؤتمر في أنه أعاد لغة التعاطف التي افتقدها لبنان منذ بدأت الحرب، وذلك في تشديد المجتمعين على أنه ليس متروكاً، وعلى أولوية وقف إطلاق النار وتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 بكلّ مندرجاته، من خلال ضمانات يقدّمها الجانب اللبناني. ولو أن الخلاف لم يغب حول آليات تنفيذ القرار في انتظارات تتحكّم فيها قوىً دوليةٌ بوقف ٳطلاق النار، وبنتائج الردّ الٳسرائيلي على الهجوم الصاروخي الٳيراني، وبنتائج الانتخابات الأميركية، وسط سعي ٳسرائيل إلى التأثير على البيئة الدولية عبر خلق واقع جديد في الأرض يساعدها في ديمومة الاحتلال.
تبدو الطموحات التي أعرب عنها الإليزيه مشكوكاً فيها؛ دعم سيادة لبنان؛ فتح طريق الحلّ السياسي؛ تعزيز عمل المؤسّسات، وهي من الأهداف التي تسعى ٳلى تحقيقها. فالخروج من المأزق السياسي من مسؤولية اللبنانيين في مرحلة التنفيذ ما بعد المؤتمرات، ما يذكّر بصفحات كثيرة فرنسية بهذا الخصوص.
أصبح لبنان مرّة أخرى ساحة حرب أعادته منصّةً مفتوحةً لكل القضايا والحسابات، والنصائح الأميركية للبنان (عبر عاموس هوكشتاين وأنتوني بلينكن) تقول: "القبول بالمفروض حالياً، تنفيذ القرار 1559، حتى لا يضطر للقبول بشروط أقسى لاحقاً"، ما يُؤشّر إلى ٳنهيارات سياسية مختلفة. ولبنان في تكوينه وتناقضاته، لا يستطيع تنفيذ ذلك في حالة اللادولة، التي لا تملك أجوبةً عن تصوّرات تُطرح من الخارج، ٳلا ٳذا أرادت الطائفة الشيعية مجتمعة (ليس فقط حزب الله)، وقرّرت مثل الطوائف الأخرى أن تخرج من حرب مدمّرة لحماية الدولة وقواها الأمنية، ومنعاً لتدهور الأوضاع الداخلية. وقد أخرجت المليشيا الشيعية قدراتها من الأرض في ظلّ مليارات الدولارات التي قدّمتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي الأعمال الحربية، بعد ثلاثين يوماً، لم تتمكن اسرائيل من السيطرة بالكامل على أيّ بلدة، وفقدت العديد من جنودها، ٳذ فوجئوا بدرجة الاستعداد وكفاءة المقاتلين في مارون الراس وعيتا الشعب، وفي مختلف أنحاء جنوب لبنان. ولٳيران هدفان، الأدنى منع توسّع الحرب لتشملها، وهي تحارب في لبنان من خارج أرضها لتحمي نفسها، والهدف الأقصى أن تكون شريكةً للولايات المتحدة وٳسرائيل والسعودية، "أعمدةَ الاستقرار" في النظام الجديد في المنطقة.
يزعم الٳسرائيليون أن ليست لديهم نية احتلال، كما كان عليه الوضع قبل العام 2000، لكنّهم يريدون تجنّب العودة إلى الوضع الراهن بأيّ ثمن، ولن يسمحوا للمليشيات بٳعادة التسلّح، ولا يريدون جيشاً لمراقبتهم، حتى لو كان هناك وقف لٳطلاق النار. والهدف الحصول على ضمانات أمنية أكثر صلابة ممّا كانت عليه بعد العام 2006، وأدّى ذلك إلى قرار مجلس الأمن 1701، الذي لم يمنح يونيفيل تصميماً يمنعهم من دخول لبنان. وهي تتعرّض بشكل متزايد لتجاوزات واستهداف الجيش الٳسرائيلي في انتهاك للمبادئ الأساسية لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
النقاش مع الطائفة الشيعية الأكثر تضرّراً ليس أمراً بديهياً ويتدهور، وكثيرون قريبون من حزب الله مقتنعون بأنهم "انتصروا في الحرب"
نتائج الحرب أكبر من لبنان، الممرّ الصغير منذ أيام "كامب ديفيد" الذي تتفجر فيه الأزمات، ومن مصلحة لبنان أن ينأى بنفسه عن الصراعات، ووقف استيراد حروب الآخرين، واستعادة دور الدولة التي تنازلت تنازلاً مزمناً ومستمرّاً منذ أكثر من خمسة عقود عن دورها الضامن والحامي الوحيد لسلامة الوطن والأرض، واستعادة دور المؤسّسات بإعادة تركيبها، بدءاً برئاسة الجمهورية والحكومة وسياساتها، وصولاً إلى جميع مؤسّسات الدولة، وفي مقدّمتها الجيش الذي سيكون حجر الأساس الذي لا يمكن من دونه التفكير ببناء المرحلة المقبلة. لكنّ ذلك كلّه من باب التمنيات التي تحتاج ٳلى سياسات من "الحياد"... "لست متأكّداً أننا ندافع عن الحضارة من خلال زرع الهمجية والبربرية" (بحسب تعبير ماكرون)، وهو توصيف لن ترضى عنه ٳسرائيل. وطالما ألحقت الضرر بأعدائها، ستستمر في الحرب في غزّة ولبنان.هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها لبنان لهذا الخطر كلهّ، ولشعور بالعزلة قوي جداً. دخل حرب "ٳسناد" بسيطة فخرج بحرب وضعته في مركز زلزالها، إذ تستخدم الدولة العبرية آلتها الحربية كلّها للتدمير واستنساخ ما فعلته في غزّة. وترفض البحث عن أيّ صيغة لحلّ دبلوماسي، وتتمسّك أكثر بعدم العودة إلى ما قبل 8 أكتوبر/ تشرين الأول (2023). فيما يسعى نتنياهو إلى كسر وحدة الشعب اللبناني وزعزعة التضامن.
النقاش مع الطائفة الشيعية الأكثر تضرّراً ليس أمراً بديهياً ويميل إلى التدهور. كثيرون قريبون من حزب الله مقتنعون بأنهم "انتصروا في الحرب"، على الرغم من القتلى والجرحى والدمار، كما لو أن ذلك كلّه ليس مهمّاً، وسط تهديدات بالانكفاء نحو الداخل، ما يعني أن لبنان ساحة أشلاء، أيّ ساحة لسمات الانقسامات كلّها، وفي وقت لا تبدو معه إسرائيل مستعدّة لوقف الحرب وتحديد أهدافها السياسية. واكتفت غالبية الدول العربية بتفويض دبلوماسي من الدرجة الثانية في المؤتمر، وهي علامة على أنها لم تكن تتوقّع كثيراً من الناحية السياسية في قاع لبنان البارد، الذي تقصفه ٳسرائيل يومياً، ويقع فريسة لأسوأ الكوارث الٳنسانية في تاريخه.