لبنان .. موتٌ مؤجّل
عام كامل انقضى على جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب، ولن ننسى ولن نسامح. كيف يمكن أن نسامح، وهم يصرّون على تذكيرنا يومياً بالجريمة، وبفجورهم في محاولة طمسها، ووقاحتهم في الدفاع عن بعضهم بعضا، والتمترس خلف حصاناتهم، وإخفاء هوية من استقدم النترات وخزنها عن سابق تصميم، لتنفجر فينا بفعل فسادهم وإهمالهم، وتعنّتهم في منح الإجابات والسماح بتحقيق جدّي واحد... لكل منهم قدرة فائقة على الكذب والتملّص من المسؤولية، لكنهم في الحقيقة كانوا يعلمون، ونحن لم نكن على دراية بشيء. لم نكن نعرف ما ينتظرنا. كان ذلك ذنبنا قبل 4 أغسطس. أما منذ عام فذنبنا أننا أحياء أو شبه أحياء. قدرُنا كان أن ننجو من الانفجار لتقتلنا يومياً تداعياته.
لم نتحوّل إلى أشلاء. لم تقطّع أجسادنا بشظايا الزجاج والحديد. لم نوضع في توابيت، وننقل إلى تحت التراب لنستريح. بقينا أحياء لنتذكّر كل يوم ما جرى. أننا أحياء بالمصادفة. أن هناك من افتدتنا، فكان ذلك غير كاف في درب جلجلتها، فأصيبت لتعاني عنّا جسدياً، ونكتفي بمشاركتها المعاناة النفسية. وفي ذلك ذنبٌ مضاعفٌ أن نراها تتألم وتعمل، لأن الحياة تفرض ذلك، ولأن لا دولة لتعيد لها حقها، لتهتم بعلاجها، لتحاسب قتلتها، لمنحها فرصةً لمحاولة التعافي.
تكبر معاناتنا ونكتفي بالغضب والثرثرة. ضجيج كلام فارغ وتساؤلات تملأ الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي. نعلّق على كل تفصيل وكأن في ذلك محاولة للهروب من عجزنا أمام جبروتهم. كيف هناك من يستطيع تحويل مجزرةٍ كهذه إلى فلكلور احتفالي. إلى تمثالٍ مقرفٍ لا يمت للفن بصلة. كيف هناك من يستطيع أن يعظ بالصبر وتجنّب "العبارات المسيئة". ولماذا لا يقترح تقديم الورود للقتلة وحماتهم ومن ثم شكرهم لأنهم دمّروا نصف العاصمة لا كلها، ولم يتكبدوا حتى محاولة إعادة إعمارها أو التكفير عن ذنبهم.
ما كل هذه التفاهة. ما كل هذا الاستخفاف بآلامنا. ألم تطن آذانهم بدويّ الانفجار مثلنا. ألم يرعبهم، ألم تمض عليهم ليال طويلة بلا نوم، ملؤها الفزع والألم. ألم يفقدوا أحداً. ألم يقلقوا ولو ساعات. ألم يروا بيروت مدمرة؟ هم متبلدون أم نحن؟ ربما الجميع. تواطؤ ضمني أو غير مقصود. كل بطريقته لكن لا فرق. كل شيء بلا قيمة. مضيعة وقت.
يتدفق الآلاف، فوجا تلو فوج، إلى محيط المرفأ. تعلو هتافاتهم، لكنها تبدو بلا مغزى. لم يعد هناك تعويل على أحد. تتردّد معلومات عن اشتباكات وضرب سكاكين في الشارع المجاور. لا ردّة فعل. يُسمع صوت رصاص قريب مرة واثنتين وثلاثا. لا ردة فعل مرة أخرى، فما أسوأ ما قد يحدُث في يوم ذكرى الانفجار؟ أن تخترق الرصاصة الزجاج وتستقر في أحد الأجساد. وماذا بعد، إصابة، موت، وما الغريب في ذلك في بلد يضحّي بأبنائه ويقتلهم يومياً؟
كم نحن عالقون في لحظة الانفجار. ما جدوى كل ما قد يحدث أمام هول فاجعتنا، وعذاباتنا. عشرات الآلاف أم مئات الآلاف من المحتجّين. ما نفع ذلك عندما يحدُث ساعاتٍ، ثم يعود كل واحد إلى منزله بانتظار الذكرى الثانية والثالثة وربما العاشرة، لتكرار المشهد نفسه، محاولاً إقناع نفسه أنه أتم واجباته. ما الذي يرضينا؟ ما الذي يخفف من غضبنا .. من ذنبنا؟
لا شيء سوى العدالة، محاكمة القتلة، كل القتلة. حسناً إنه كليشيه آخر. فلنقل محض أوهام، رغبات صعبة التحقق. لن يسمحوا بذلك، طالما أنهم في السلطة، يأمرون فيُطاعون. تطلق الرصاصات وتهوي الهراوات على الأجساد باسمهم، تؤمن استمراريتهم وتطيل إخضاع الشعب.