لبنان .. هكذا تصنعنا الطوابير
أتعلمون أن الطوابير وُجدت لإعادة رسم نمط اجتماعي محدّد، وزرع أفكار معيّنة في زوايا لاوعينا، مواطنين ومقيمين في لبنان؟ حسناً، يبدو الأمر ساخراً بعض الشيء، لكنه في جوهر وجودية الطوابير ليس ساخراً. للمرة الأولى منذ الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، وبهذه الصورة الشمولية، يصطفّ اللبنانيون في طوابير، على محطات البنزين وفي الصيدليات وفي المصارف وفي الأفران، وحتى من أجل شراء البنّ، بعد رفع سعر الكيلو غرام الواحد بنسبة الضعف تقريباً. لا تشبه تلك الطوابير طوابير مماثلة سبق أن شهدها اللبنانيون، من طوابير الانتخابات إلى طوابير الانتظار لدخول مسرح أو مطعم أو مَعلَمٍ فنّي. ولا تتناغم أيضاً مع طوابير العالم المثالي، المتمحور حول التقاط صورة مع رياضيّين ورياضيات أو ممثلين وممثلات أو كتّاب وكاتبات مثلاً.
طوابيرنا اللبنانية انتظار تقتله قلّة الصبر، سواء بإشكال أو بإطلاق نار، يسقط فيه جرحى وفي بعض الأحيان قتلى، أو تداهمنا صدمةٌ ما لأن "المخزون لا يكفي جميع من في الطابور". يخرج "المنتصر" من الطابور. يعود إلى منزله فرحاً. عائلته سعيدة، إذا لم يكن أعزب. يغفو الجميع على وقع سعادةٍ عابرة يبنيها الدوبامين (مادّة صنع السعادة في جسم الإنسان) بدأبٍ. بالنسبة إليهم "لقد نجونا اليوم وغداً يوم آخر". في المقابل، يعود "الخاسر" في الطابور إلى بيته. لا حدود لغضبه. قد يصطدم مع عائلته، مستعيداً مع زوجته خلافاً قديماً وقع بينهما خلال مرحلة ما قبل الزواج منذ 20 عاماً مثلاً. يسمع الجيران الأسرار، ويبنون عليها سبل التعاطي مع الزوجين في المرحلة المقبلة، لكن الجيران أنفسهم يدركون أنهم سيمرّون بما مرّ به "خاسر الطابور"، إن خسروا لاحقاً في معركة الطوابير.
وبين رابح ومهزوم في مطلق طابور، تقف أقليّةٌ متحكّمةٌ ببديهيات الناس. أقليّة تسيطر بقوة النفوذ والسلاح والمال والسلطة والأحزاب على كل حاجات الإنسان في لبنان. يدعوها بعضهم "المافيا" وآخرون "الكارتيلات". تنجح هذه الأقليّة، بفعل كل شيء، في تهريب البنزين والمازوت وكل البضائع إلى خارج لبنان، وإقفال المستودعات والمخازن المليئة بالأدوية والمواد الغذائية، والتلاعب بسعر الدولار في السوق السوداء. قوتها لافتةٌ إلى درجة أن الجميع، من جيش لبناني وقوى أمنية وحزب الله وسلطة حاكمة، يدّعون عجزهم عن مكافحتها ووضع حدّ لها، سواء باسم الدستور والقوانين، أو باسم تجهيل المهرّبين. والجميع، بصورة مثيرة للغرابة، يدعون الدولة إلى "ممارسة سلطتها لوقف التهريب إلى خارج البلاد، ولفتح المستودعات الملأى بالأدوية والطعام".
ترسم الطوابير صورة رباعية، تتشكّل في نسيج علم الاجتماع اللبناني. الأولى هي لمواطن خاسر سيكون مشروعاً مستقبلياً لأي حالةٍ صداميةٍ تنشب فجأة على مستوى فردي أو جماعي، مدمّراً بيئته الحاضنة، انطلاقاً من أسرته، وصولاً إلى الدائرة الأوسع. مثل هذا المواطن قد يحتاجه أي متموّل يريد فرض "هيبة شارعية" على مجتمع أو أحد، باسم الدين أو العقيدة السياسية. الصورة الثانية، لمواطن رابح، لكن الإرهاق الناجم عن محاولة تكرار الربح سيجعل منه إنساناً متوتراً، إلى درجة أن الأنانية ستُصبح الأولى في قائمة أخلاقياته، على حساب التعاون والتعامل الحسن. الصورة الثالثة هي لدولة مفكّكة الأوصال، يقودها جميع من هم في السلطة وخارجها، الذين ارتضوا ممارسة اللعبة السياسية تحت سقف هذا النظام، مهما تحدّثوا عن مثاليتهم الكاذبة. وما تبقى من قوة هذه الدولة مبنيّ على استثمار البنية الطائفية في لبنان لتأجيج الخلافات، وإبقاء المواطنين في حالة اشتباكٍ دائم و"خوف من الآخر". الصورة الرابعة، هي للفئة المستفيدة من الطوابير والتهريب، وهي الفئة التي تُصبح ثريةً فجأة، وتبدأ برسم المستقبل السياسي لأي مجتمع وفقاً لثرائها. بابلو إسكوبار كان مسيطراً على نصف كولومبيا بفضل أمواله ومخدّراته، لكن هذا لا يجعله إنساناً يحترم القوانين، بل قُتل في أسوأ سيناريو ممكن، ولم يرأف به المجتمع، مهما حاولوا "تجميل" صورته.